عاجل:
مقالات 2023-11-21 22:11 484 0

منشأ القيم الأخلاقية والذكاء العاطفي

نميز في منشأ القيم الأخلاقية ثلاث مدارس: المنفعة الذاتية والحاجة الاجتماعية والسمو الروحي،

المقالات المنشورة تعبر عن وجهة نظر أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع

 حيث ترى كل مدرسة أن المنشأ يرتبط بنقطة معينة.

بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 134]

صدق الله العلي العظيم

من خلال الآية المباركة نتناول محاور ثلاثة:

منشأ الأخلاق.

تزاحم القيم الأخلاقية.

الذكاء العاطفي.

المحور الأول: منشأ الأخلاق

متى يعتبر العمل خلقاً؟ ما هو المنشأ الذي على إثره يتصف العمل بكونه خلقاً؟

هنا مدارس ثلاث: المنفعة الذاتية والحاجة الاجتماعية والسمو الروحي، كل مدرسة ترى أن منشأ القيم الأخلاقية يرتبط بنقطة معينة.

المدرسة الأولى:

فالمدرسة الأولى هي المدرسة التي ترى أن منشأ القيم الأخلاقية هو المنفعة الذاتية، سارتر رائد الفلسفة الوجودية يرى أن الأخلاق أمور نسبية وليست أموراً ثابتة، إنما القيم الأخلاقية تختلف باختلاف الأفراد وتختلف باختلاف المجتمعات لأن القيم الأخلاقية نابعة عن المنفعة، فبما أنها نابعة من المنفعة إذن تختلف باختلاف المجتمعات وتختلف باختلاف الأفراد.

في بعض المجتمعات ذبح البقرة جريمة ورذيلة، وفي مجتمعات أخرى ذبح البقرة والإنفاق منها على المحتاجين فضيلة وخلق عظيم، تختلف المجتمعات في هذا العمل تبعاً لاختلاف الإيديولوجية والمنفعة. في بعض المجتمعات الحجاب فضيلة وخلق، وفي مجتمعات أخرى الحجاب قيود ورذيلة.

إذن المجتمعات تختلف في القيم وهذا يعني أن القيم الأخلاقية ليست ثابتة، وليست حقائق مطلقة، بل تختلف باختلاف المنافع والمصالح والإيديولوجيات.

الصدق يكون خلق إذا كان نافعاً، وهو رذيلة إذا كان ضار، فإذا كان الصدق ضاراً فالكذب هو القيمة الأخلاقية وبالعكس، المسألة تدور مدار المنفعة والمصلحة، يقول شاعر المهجر إيليا أبو ماضي:

رُبَّ  قُبحٍ  عِندَ زَيدٍ                  هُوَ حُسنٌ عِندَ بَكرِ

فَهُما   ضِدّانِ  فيه                    وَهو وَهمٌ عِندَ عَمرِ

فَمَنِ  الصادِقُ فيما                   يَدَّعيهِ  لَيتَ شِعري

وَلِماذا لَيسَ لِلحُسنِ                   قِياسٌ  لَستُ  أَدري

العمل الواحد قد يكون حسناً عند طرف وقبيحاً عند طرف آخر، ووهماً عند ثالث، هذا يعني أنه ليس للقيم الأخلاقية ضوابط ثابتة، وإنما تختلف المجتمعات والافراد تبعاً لاختلاف المنفعة أو الإيديولوجية المتبعة.

وهذه المدرسة محل الملاحظة والنقد والمناقشة، هناك فرق بين العادات والأخلاق، هناك فرق جوهري بين العادات والتقاليد وبين القيم الأخلاقية.

العادات والتقاليد نعم تختلف باختلاف المجتمعات وربما تختلف باختلاف الأفراد تبعاً للمنفعة، تبعاً للإيديولوجية الخاصة، بعض المجتمعات ترى اللون الأبيض شعار للفرح، وبعض المجتمعات ترى الأبيض شعار حزن والأسود شعار فرح، بعض المجتمعات ترى التصفيق شعار للحزن وبعضها تراه شعار للفرح.

اختلاف المجتمعات في العادات وفي التقاليد تبعاً لاختلاف المصالح والإيديولوجيات، بينما القيم الأخلاقية لا تنحدر من مصلحة أو منفعة أو عادة أو رؤية اجتماعية، القيم الأخلاقية تنبع من الفطرة، تنبع من إنسانية الإنسان، لا أنها تنبع من رؤية اجتماعية معينة أو إيديولوجية خاصة.

ودليلنا على ذلك، ترى كل المجتمعات البشرية بمختلف مستوياتها في التعليم، وبمختلف مستوياتها في التقدم التكنولوجي تثني على من يلتزم بحقوق الإنسان، تثني على من يحترم النظام، تثني على من هو أمين وصادق في تعامله مع الناس.

لا يوجد مجتمع بشري يذم من يحترم النظام، أو يذم من هو إنسان أمين، أو يذم من يلتزم بالحقوق ويؤديها كما هي، هذا يعني أن للأخلاق رصيداً إنسانياً فطرياً لا يختلف باختلاف المجتمعات ولا يختلف باختلاف المنافع والمصالح، وإنما الذي يختلف باختلاف المنافع والمصالح هو العادات والتقاليد.

لأجل ذلك الحجاب ليس عادة، وليس أمراً قابلاً للاختلاف، الحجاب هو رمز للانتماء إلى السماء، المرأة التي تنتمي إلى السماء رمز انتمائها وشعارها في الانتماء هو هذا الحجاب.

الحجاب رمز ديني سماوي لا يختلف باختلاف العادات والتقاليد والمصالح والمنافع حتى يقال بأن الأخلاق هي أمور نسبية وليست أموراً مطلقة وليست أموراً ثابتة.

المدرسة الثانية:

من أيام سقراط رائد الفلسفة اليونانية إلى يومنا هذا، هناك من يتبنى هذه المدرسة وهي أن منشأ الأخلاق ومنشأ القيم الأخلاقية هو الحاجة الاجتماعية.

إلى اليوم بعض فلاسفة المسلمين كالسيد الطباطبائي صاحب الميزان رحمه الله وغيره يتبنون هذه النظرية، القيم الأخلاقية قائمة على الحاجة الاجتماعية، بمعنى أن المجتمع البشري منذ أول يوم نشأ فيه المجتمع اتفقت أفراده على مجموعة من القيم، منها العدالة، والصدق، والأمانة، والإحسان.

اتفقت عليها لأن فيها استقرار للنظام، حاجة النظام للاستقرار فرض على العقلاء أن يتفقوا على هذه القيم، لو لم تكن هناك عدالة لانهار النظام الاجتماعي، لو لم يكن هناك صدق، لو لم يكن هناك احترام للنظام، لو لم يكن هناك التزام بالقوانين الحقوقية ينهار النظام الاجتماعي، وتتعرض الأرواح والأعراض والأموال للتلف والضياع.

فالعقلاء منذ أول يوم أدركوا حاجتهم في حفظ المجتمع عن الانهيار، وحفظ النظام الاجتماعي في مجال الاستقرار يقتضي مجموعة من القيم المعينة مثل العدالة، والصدق، والأمانة…

إذن المسألة تنبع من الحاجة الاجتماعية، حاجة النظام الاجتماعي للاستقرار هو الذي بلور القيم الأخلاقية وجعلها أموراً ممدوحة وأموراً هي محل الثناء والإجلال والإعظام.

هذه المدرسة هي أيضاً محل نقد وملاحظة، عندما نربط الأخلاق بالنظام الاجتماعي هذا يعني أن الإنسان لو يعيش وحده لن يعرف الأخلاق، لأن الأخلاق جاءت من المجتمع لحفظ النظام الاجتماعي، نبعت من المجتمع لحفظ النظام.

لو تجرد الإنسان عن المجتمع لم يهتدِ للقيم الأخلاقية لأنه ليس هناك حاجة اجتماعية تفرض عليه أن يلتزم بالصدق أو الأمانة أو العدالة أو الإحسان، كل هذه نبعت من المجتمع وبهدف استقرار النظام الاجتماعي.

إذا لم يوجد مجتمع لا يوجد أخلاق ولا قيم، بينما القيم الأخلاقية لا تكتسب حسنها ولا تستقي جمالها من خلال الرؤية الاجتماعية أو من خلال بناء المجتمع عليها بل هي أعمق من ذلك وأسبق، كما يقول الفلاسفة ما بالعرض يرجع لما بالذات.

لو طرحنا السؤال لماذا العدل جميل؟ لماذا الصدق جميل؟ لماذا كل المجتمع البشري لا يختلف في قول أن العدل جميل، والأمانة جميلة والصدق جميل؟

يقولون جميل لأنه يحفظ النظام، لأن فيه حفظاً للنظام واستقراراً للحياة الاجتماعية لذلك كان العدل جميل والصدق جميل والأمانة جميلة، ولكن لماذا كان استقرار المجتمع مطلوب؟ لابد من الإجابة عن هذا السؤال.

نقول مطلوب لأنه جميل بالفطرة، الفطرة الصافية هي التي تقول وتقرر، الرؤية الإنسانية الصافية هي بنفسها تقرر أن في انتظام الحياة جمالاً، أن في استقرار المجتمع حسناً، لأن في انتظام الحياة جمالاً انتقل الجمال من انتظام الحياة إلى العدل، انتقل الجمال من انتظام الحياة إلى الأمانة والصدق.

إذن عندنا بالنتيجة جميل فطري، جميل ينبع جماله من الفطرة الصافية وهذا ما نريد أن نصل إليه، أن المنبع الأول للقيم الأخلاقية يعود إلى الفطرة لا يعود إلى المصالح الاجتماعية، ولا يعود إلى مجرد الحاجة الاجتماعية، وإنما ينبع من قرار الفطرة الإنسانية.

المدرسة الثالثة:

القيم الأخلاقية منشؤها السمو الروحي، والسمو الروحي عبارة عن التحرر من الأنا، الفيلسوف الألماني كانت مقابل سارتر، ومقابل سقراط يقول: منشأ الخلق هو الواجب والمسؤولية.

هناك فرق بين كون الدافع الوظيفة أو كون الدافع هو المسؤولية، التمريض مثلاً إذا كان يمارس التمريض لأنه وظيفة فهذا ليس بخلق بل مهنة، أما إذا كان يمارس التمريض لأنه واجب إنساني لأنه مسؤولية إنسانية فهذا خلق.

الطبيب يتصدى لعلاج المرضى، تصدي الطبيب لعلاج المرضى إذا كان بدافع أنه وظيفة فهو ليس بخلق بل مهنة يستلم عليها راتب، إذا كان يتصدى لعلاج المرضى بدافع أنه مسؤولية إنسانية وواجب إنساني فهذا خلق، وهكذا الصدق والأمانة والعدالة والإحسان… إلخ.

كل هذه القيم إذا صدرت بدافع الوظيفة فليست خلق، وإذا صدرت بدافع أنها واجب إنساني ومسؤولية إنسانية فهي الخلق.

هنا يأتي التعليق، كانت أصاب جزء من المدرسة الواقعية للقيم الأخلاقية لكنه حصر الدافع في الواجب والمسؤولية، لكن ما هو الدافع الحقيقي وراء الأخلاق؟ ما هو المنشأ الفطري الحقيقي وراء الأخلاق؟

المنشأ الفطري الحقيقي وراء الأخلاق

المنشأ الفطري الحقيقي وراء الأخلاق هو التحرر من الأنا، يسمو على نزعاته ورغباته ويتحرر منها ويعيش السمو الروحي. السمو الروحي والتحرر من الأنا هو منشأ الخلق بغض النظر عن أي دوافع أخرى، التحرر من الأنا له صور ثلاث:

الصورة الأولى:

من يأتي بالعمل لأنه واجب إنساني، يأتي بالتمريض، بعلاج المرضى، بمساعدة كبار السن، بمساعدة المعوقين، مساعدة الفقراء والأيتام، يأتي بهذا العمل لأنه واجب إنساني، هذا تحرر من الأنا وسمت روحه على رغباته وشهواته.

الصورة الثانية:

أن التحرر من الأنا منظور ومطلوب من أجل أن يصبح العمل خلقاً ومن أجل أن يكتسب العمل قيمة أخلاقية، من أجل أن يحصل الإنسان على كمال الروح كما يقول علماء الأخلاق: اللذة في ترك اللذة.

هذه اللذة الروحية الخاصة هي منشأ من مناشئ القيم الأخلاقية، أن تسعى لكي تحصل على لذة انتصار الإرادة على الشهوات والغرائز؟

إنسان عنده امتحان غداً فإذا نام على وسادته الناعمة ارتاح من هذا كله، لكنه إذا غالب شهوته وحارب غريزة حب النوم وقام وصبر على المذاكرة وصبر على قراءة دروسه حتى يتقنها، وسهر الليل وقاوم غريزة حب النوم من أجل أن يحصل على درجة الامتياز في الامتحان هذا الإنسان يعيش لذة، النوم فيه لذة لكن لذة جسدية أما في انتصار الإرادة على الشهوة توجد لذة أعظم وهي لذة السمو الروحي، لذة الكمال.

هذه اللذة لذة انتصار الإرادة على الرغبات والشهوات منشأ من مناشئ القيم الخلقية، منشأ من مناشئ التحرر من الأنا، منشأ من مناشئ اكتساب العمل صفة الخلق وصفة القيمة الإنسانية.

افترض إنسان مبتلى بالتدخين، هو يعرف أن التدخين له أضرار ومع ذلك يماطل ويماطل، حتى يأتي في يوم من الأيام تنتصر فيه الإرادة على الرغبة فيقرر أن يتخلى عن التدخين، هنا هو يعيش قيمة خلقية وهي قيمة انتصار الإرادة على الشهوة والرغبة، فإن في انتصار الإرادة سمواً روحياً ولذة روحية لا تضاهيها لذة التدخين ولا لذة أي شيء آخر.

الصورة الثالثة:

أن ينطلق الإنسان في عمله نحو الله تبارك وتعالى، هو صادق، هو أمين، هو عادل، هو متحرر من المعاصي، متحرر من الرذائل، لا لأن الصدق واجب إنساني كما يقول كانت، ولا لأن في الصدق لذة روحية كما يقول علماء الأخلاق بل الدافع هو الله عز وجل ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا «6» يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا «7» وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا «8» إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا «9»﴾ [الإنسان: 6 – 9].

التحرر من الذات قيمة خلقية، وانتصار على النفس عندما يجعل الهدف هو الله، هو العروج نحو الله، هو التقرب نحو الله تبارك وتعالى، هذا أيضاً يجعل للخلق قيمة إنسانية.

فإذن المدرسة الصحيحة أن منشأ الخلق الذي يجعل العمل خلقا وقيمة إنسانية عالية هو التحرر من الذات، سواء أتى به كواجب إنساني كما يقول كانت، أو أتى به من باب اللذة الروحية والانتصار على الشهوة، أو أتى به تقرباً محضاً لله تبارك وتعالى، هنا تبرز قيمة الخلق الإنساني.

المحور الثاني: تزاحم القيم الأخلاقية

يقول البعض أن الأخلاق نسبية لأنه في بعض المواطن يحصل اختلاف لا ندري هل أن الخلق هكذا أو الخلق هكذا.

مثلاً لو دار الأمر بين حفظ النفس وحفظ العرض، إنسان إما أن يحفظ نفسه من الموت أو يحفظ عرضه عن الهتك أيهما يقدم؟

كلاهما خلق، حفظ النفس خلق، حفظ العرض خلق، إذا تزاحما إما أن يقتل نفسه وينجي عرضه أو يهتك عرضه وينجي نفسه.

هنا كما يقول العلماء يحصل تزاحم فيقدم الأهم على المهم، كلاهما عدل، والعدل هو وضع الأشياء في مواضعها، والعدل بالمصطلح الفقهي إعطاء كل ذي حق حقه، من حق النفس أن تعيش، ولنفسك عليك حق أن تحفظها عن الهلاك والتلف، ومن حق العرض أن يصان، فإن قدمت حق النفس فهذا عدل، وإن قدمت حق العرض فهذا عدل، كلاهما عدل، كلاهما إعطاء كل ذي حق حقه، هنا يقدم الأهم على المهم.

يقول كثير من الفقهاء أن حفظ العرض وصيانته أهم، هذا من باب تزاحم بين عدلين لا أن العدل أمر نسبي، العدل ليس أمر نسبي ولكن مصاديق العدل قد تتزاحم في بعض الظروف.

مثال آخر زوجة في حالة ولادة، وفقدت الزوجة الوعي وقرر الطبيب إما أن تموت الأم أو يموت الجنين، والقرار يعود إلى صاحب المسؤولية الأب، حفظ أحد الحياتين هو تزاحم بين خلقين، بين عدلين، حفظ حياة الأم عدل، وحفظ حياة الجنين عدل، كلاهما نفس محترمة، هذا من باب التزاحم بين خلقين وبين مصداقين للعدل.

الكميت بن زيد الأسدي شاعر أهل البيت، وهو الذي كان يقول في أهل البيت :

طَرِبتُ وما شَوقاً إلى البِيضِ أَطرَبُ                         ولاَ  لَعِبًا  مِنّي  أذُو  الشَّيبِ يَلعَبُ

ولم  يُلهِنِي  دارٌ  ولا  رَسمُ  مَنزِلٍ                           ولم    يَتَطَرَّبنِي    بَنانٌ   مُخَضَّبُ

وَلكِن  إِلى  أهلِ  الفَضَائِلِ والنُّهَى                            وَخَيرِ  بَنِي  حَوَّاءَ  والخَيرُ  يُطلَبُ

بنِي   هَاشِمٍ   رَهطِ  النَّبِيِّ  فإنَّنِي                             بِهِم  ولَهُم  أَرضَى  مِرَاراً  وأغضَبُ

مَا   لِيَ   غلاّ   آلَ  أحمدَ  شيعةٌ                              وَمَا  لِيَ  إلاَّ مَشعَبَ الحَقِّ مَشعَبُ

قام هشام بن عبد الملك الأموي بهدر دم كل من يلقى الكميت، فصار الكميت يختفي من مكان إلى مكان خائفاً وجلاً، قال له أحد الوسطاء المقربين من هشام بن عبد الملك: أنا أتوسط لك لحفظ دمك، ولكن بشرط أن تمدح بني أمية.

فدخل هذا الوسيط على هشام بن عبد الملك سلم عليه ثم قال: جئتك في حاجة، هشام عرف الحاجة قال: قضيت كل حاجتك إلا في الكميت.

وقد كانت أم هشام جالسة إلى جانب هشام فاستنجد بها هذا الوسيط قال لها: يا أم أمير المؤمنين… فقالت لهشام: لبي حاجته وإن كانت في الكميت.

قبل هشام ذلك، لما قبل هشام ذلك قال له: إذن ائذن للكميت أن يدخل عليك وينشد فيك شعراً، فأذن له، دخل الكميت بن زيد على هشام بن عبد الملك وقال:

قف بالديار وقوف زائر                           واتلوا  المفاخر والمآثر

والآن  صرت إلى أمية                           والأمور   إلى  مصائر

نجا وأطلق سراحه وعاش آمن، لقيه الإمام الباقر قال له: أنت الذي قلت والآن صرت إلى أمية والأمور إلى مصائر؟ قال: بلى قلتها سيدي للتقية حفظاً لدمي.

قال: أما والله إن كنت قلتها للتقية فإن التقية تجوز في مثل شرب الخمر. حتى شرب الخمر يجوز حال التقية فكيف بحفظ الدم الذي هو من باب أولى.

إذن الكميت دار أمره بين خلقين، بين حفظ النفس أو حفظ الانتصار إلى الحق بالأسلوب العلني، هو ما خرج عن إيمانه وعقيدته، هو في إطار في قوله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: 106] وكما حصل لعمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه عندما أُكره على قول كلمة الكفر، قالها وأنجى نفسه، فنزلت فيه هذه الآية.

الكميت بن زيد حفظاً لنفسه من القتل ذكر هذه الكلمات مدحاً في بني أمية، على أية حال هو دار بين عدلين بين العدل مع النفس وهو إعطاؤها حقها في الصيانة والحفظ وبين العدل مع كلمة الحق أن يقولها ولو على حساب نفسه فاختار أحد المصداقين على الآخر في مقام التقية.

المحور الثالث: الذكاء العاطفي

نلحظ هنا خصوصاً في الفلسفة الغربية اتجاهين: الاتجاه الليبرالي والاتجاه الاجتماعي.

 الاتجاه الأول: الاتجاه الليبرالي

ينشر الاتجاه الليبرالي ثقافة التمركز حول الذات، المهم أنت وغيرك ليس مهم، المهم نفسي وليس المهم غيري، التمركز حول الذات وغياب الروح الاجتماعية، أن تجعل وقتك وجهدك وأموالك كلها في سبيل تحقيق طموحاتك وتلبية رغباتك، أن تتمركز حول ذاتك ولا يهمك غيرك.

هذا الاتجاه كتب عنه كريستفور لاتش في كتابه «الثقافة النرجسية» يقول: السائد في عصرنا الحاضر خصوصاً في الغرب هو الثقافة النرجسية بمعنى أن الإنسان يفكر في ذاته ولذلك تجد الناس أدوات ميكانيكية تتحرك على الأرض، الروابط الاجتماعية ضعيفة منهارة، كل متمركز حول ذاته، كل يريد تحقيق ذاته وطموحاته.

وقد عمل لاتش على دراسة منذ عام 1982م إلى عام 2010م ونتيجتها أن كل جيل يأتي هو أكثر نرجسية من الجيل السابق، كل جيل يأتي هو أعظم تمركز حول ذاته من الجيل الذي قبله، الثقافة النرجسية ثقافة طاغية بل بلغ الأمر بالثقافة النرجسية العزوف عن الزواج والعزوف عن الإنجاب.

أصبح الشاب في أجواء هذه الثقافة الغربية الليبرالية عازفاً عن الزواج لأن في الزواج مسؤولية وغيريه، ولأن في الإنجاب مسؤولية وغيريه وهو متمركز حول ذاته وطموحاته، بل أصبح لا يرغب حتى في صداقات دائمة لأن الصداقة الدائمة تكلفه مسؤولية وواجبات، فلكي يذوب في ذاته ويتمركز حول نفسه عزف عن الزواج والإنجاب والصداقات الدائمة، وهذا عبارة عن ترسيخ الثقافة النرجسية.

 الاتجاه الثاني: الاتجاه الاجتماعي

جيل ليبوفتسكي من أشهر الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين وله عدة كتب: «عصر الفراغ» «الترف الخالد» «مملكة الموضة».

هذا الفيلسوف تحدث عن ثقافة عصرنا هذا، يقول: ثقافة عصرنا هي ثقافة التسطيح، تسطيح المفاهيم والأفكار، ثقافة التسطيح وهشاشة الروابط الاجتماعية، حتى بين الإخوة لأم وأب واحد، وثقافة نزعة الذات حتى بلغ الأمر بالفرد أنه يقول إني أحب نفسي بما يكفي ولا أحتاج إلى إنسان ليجعلني سعيد، وهذا يكفي في تحقيق طموحي ورغباتي، هذه هي الفردانية وهذا هو التمركز حول الذات والذوبان في الذات، هذه هي الثقافة النرجسية.

في مقابل هذا نحتاج إلى قيمة الذكاء العاطفي، يقول هاورد غاردنر في كتابه الذكاءات المتعددة: هناك ذكاء عقلي، وذكاء اجتماعي، وذكاء عاطفي. والحاجة ماسة للذكاء العاطفي.

الذكاء العقلي أي إنسان عنده قدرة على حل المعادلات، وعنده قدرة على فهم النظام وكسب الربح والفوز في المسابقات فهو يمتلك الذكاء العقلي وكثير من الناس عندهم هذا.

الذكاء الاجتماعي هو القدرة على فهم نفسك وفهم غيرك وتوظيف هذا الفهم لتأسيس علاقات إنسانية مسالمة، علاقة مع جاري، علاقة مع صديقي، علاقة مع رحمي، أؤسس لعلاقات إنسانية مسالمة هادئة متعاونة، فإذا كانت لديك هذه القدرة فأنت لديك ذكاء اجتماعي، أما الإنسان المنعزل والمنكمش على ذاته ليس لديه ذكاء اجتماعي.

الذكاء العاطفي – وهو المهم – دانييل جولمان في كتابه «الذكاء الوجداني الانفعالي» يتكلم عن الذكاء العاطفي، يقول الذكاء العاطفي هو عبارة عن إفاضة الرحمة، أن تفيض الرحمة على الآخرين وتجلبهم إليك، وهذا الذكاء العاطفي يحتاج له القادة والمدراء والرؤساء حتى ينجحوا في إدارتهم، الزعيم الديني يحتاج إلى الذكاء العاطفي، الزعيم السياسي يحتاج إلى الذكاء العاطفي، مدير الشركة، مدير المؤسسة، مدير الفريق، مدير النادي، مدير المأتم، مدير اللجنة… إلخ.

مهارات الذكاء العاطفي

أي إنسان عنده إدارة يحتاج إلى الذكاء العاطفي، يقول جولمان: 85% – 90% من نجاحات الإدارات ترجع إلى الذكاء العاطفي، وتكون ذو ذكاء عاطفي إذا امتلكت ثلاث مهارات:

المهارة الأولى: ضبط النفس

لا تغضب بسرعة، لا تنفعل بسرعة، لا تظهر عواطفك ومشاعرك بسرعة، اضبط نفسك وسيطر على عواطفك ومشاعرك، حتى لو أثرت حتى لو إنسان نالك بكلمة بذيئة ونابية، أو اعتدى عليك، مع ذلك اضبط أعصابك، القائد والمدير والرئيس هو الذي يضبط أعصابه ولا يبالي بما قيل فيه وما يحكى عنه، يضبط أعصابه ومشاعره. يقول القرآن الكريم: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 134]

المهارة الثانية: التعاطف

أن تستمع لهموم الآخرين، أن تتلقى شكاوى الآخرين، تعاطف معها واستجب لها، تفاعل معها.

التعاطف يؤدي إلى جلب الناس حولك، يؤدي إلى ارتباط الناس بك.

المهارة الثالثة: التحفيز

أن تعطي الناس مشجعات ومحفزات، مثلاً هذا تعطيه كلمة جميلة تحفزه على العمل، هذا النوع من المحفزات تكتسب بها نجاح القيادة أو نجاح الإدارة أو نجاح الوظيفة والعمل،

كل هذه المهارات الثلاث تسمى بالذكاء العاطفي، الذكاء العاطفي قمة في الخلق الإنساني، القرآن الكريم يقول: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ﴾ [آل عمران: 159]

ويقول عن النبي محمد : ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]

ويقول في آية ثالثة: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]

الخلق الرفيع للرسول الأعظم وآل البيت عليهم السلام

هكذا كان رسول الله ، يذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام فيأمرون صبيانهم وسفهاءهم بأن ينالوا من النبي، يخرجون فيلقفون النبي بالحجارة والأشواك حتى دميت رجلاه فاستند إلى حائط ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون.

الرسول الأعظم يتجلى فيه هذا الخلق الرفيع، وأوضح مصاديق وصور الذكاء العاطفي يتجلى في أبنائه وأسباطه وأحفاده.

الإمام الحسن الزكي حليم آل البيت، كريم آل البيت، جاء رجل شامي فسأل من هذا الإنسان؟ فقيل له: الحسن بن علي بن أبي طالب. فشتمه وشتم أباه، والإمام الحسن مغضي عنه، مشى خلفه وهو يشتمه فرأى أن الإمام ساكت عنه فأمسك بالإمام حتى يشعره بأنه يعنيه.

التفت الإمام إليه وقال: يا هذا أظنك غريباً ولو استرشدتنا أرشدنا ولو استعتبتنا أعتبناك، فإن كنت طريداً آويناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عطشاً أرويناك، فهلا حولت رحلك إلينا ونزلت ضيفاً علينا فإن لنا منزلاً رحباً وجاها عريضاً ومالاً وفيراً.

فما تمالك الرجل حتى أمسك بيده يقبلها وقال: الله أعلم حيث يجعل رسالته فيكم أهل بيت النبوة.

موقع شبكة المنير

التعليق

آخر الاخبار