عاجل:
مقالات 2011-02-18 03:00 575 0

دعاة التغيير واعداؤه من خلال الثورة المصرية

من المؤكد ان التغيير الذي حدث في تونس دشن صفحة جديدة في البلاد، وكان بمثابة 'ثغرة الدفرسوار' في جدران مؤسسة

من المؤكد ان التغيير الذي حدث في تونس دشن صفحة جديدة في البلاد، وكان بمثابة 'ثغرة الدفرسوار' في جدران مؤسسة الحكم العربي التي استعصت على محاولات الاختراق عقودا متواصلة. فرحيل الديكتاتور زين العابدين بن علي لم يكن حدثا عاديا في عالم اعتاد الجمود السياسي وتشبث حكامه بكراسيهم حتى قيل ان الموت وحده هو القادر على تغييب الزعماء.

ولكن اتضح الآن ان التغيير تم وفق هندسة اقليمية وغربية بارعة، حققت للمواطنين مطلبهم الرئيس باسقاط الرئيس، ولكنها حافظت على الجزء الاكبر من نظامه. حتى ان الشيخ راشد الغنوشي اعترف بأن الحكومة المؤقتة 'شكلت بدون علم حركة النهضة، كبرى حركات المعارضة التونسية، او إشراكها في تلك الحكومة. وبمعنى آخر فقد تم التحكم في التغيير من حيث الشكل والحجم. وعليه تم تخفيف القبضة الامنية وازيلت مظاهر الدولة البوليسية، ولكن نجحت الخطة في احتواء غضب الجماهير، والابقاء على الرمز الثاني في النظام السابق، اذ بقي محمد الغنوشي'على رأس الحكومة، مع وعود بالاصلاح وتنقيح الدستور. فمن الذي وقف امام التغيير الشامل؟ من الذي خطط في الايام الاخيرة لحكم بن علي لمنع اسقاط النظام واقامة نظام بديل على انقاضه؟ من هي الجهات التي تواطأت للسيطرة على التغيير وتوجيهه؟

الواضح ان ثورة مصر حتى الآن حالت دون تكرار ذلك النمط من 'التغيير الموجه' لأسباب عديدة. اولها شخصية الرئيس مبارك المعروف بعناده وشخصيته العسكرية التي تستعصي على التطويع بسهولة. ثانيها: اهمية مصر الاستراتيجية، الامر الذي دفع اطرافا عربية واجنبية عديدة للتحكم الدقيق في اساليب التعاطي مع الثورة، وكيف يمكن احتواؤها مع ضمان عدم سقوط النظام. ثالثها: حجم مصر السكاني وصعوبة التحكم على غرار ما حدث في تونس، اذ ان المظاهرات المليونية لا تساعد المخططين في الخفاء على وضع خططهم موضع التنفيذ طالما استمرت الاحتجاجات العارمة. رابعها: وجود قيادات ميدانية شبابية فاعلة من جهة، وقيادات حزبية تعمل في الخفاء لمنع حرف مسار الثورة او المساومة على اهدافها. خامسا: اضطراب القوى الكبرى في الموقف وخشيتها من امرين: اتخاذ موقف مناقض لحركة التاريخ وذلك بدعم نظام الاستبداد، او السماح بحدوث التغيير وفق رغبات الجماهير، وما قد يؤدي اليه من تغيير في موازين القوى خصوصا بشأن الصراع مع 'اسرائيل'.

فمن هي القوى الفاعلة في الساحة السياسية ذات الابعاد الاستراتيجية؟ وثمة سؤال اوضح: اين تقف الدول الغربية من قضية 'التغيير في العالم العربي؟ وما هي العوامل التي تؤثر على هذه المواقف وتوجه سياسات الغرب في مثل هذه الظروف؟ لقد اوضحت الثورة المصرية وجود فراغ هائل في الموقف السياسي الغربي، لم يستطع اي من الدول الكبرى ملئه. فالولايات المتحدة تمر بفترة عصيبة وهي تتلمس دربها في وضع مضطرب مفعم بالتطورات اليومية ذات الانعكاسات المستقبلية غير القليلة.

فمنذ انطلاق شرارة الثورة في تونس، بدا واضحا حالة الاضطراب في مواقف واشنطن، خصوصا ان الرئيس باراك اوباما لم يعرف بميله نحو تشجيع الديمقراطية او احداث تغييرات جوهرية على صعيد انظمة الحكم. وعلى مدى العامين الاخيرين لم يظهر الرئيس الامريكي نزعة نحو تشجيع الديمقراطية او الدفاع المبدئي عن حقوق الانسان. وعلى العكس من ذلك ارتبطت شخصية اوباما بالرغبة في تمتين العلاقات مع الانظمة العربية وغض الطرف عن انتهاكاتها لحقوق الانسان او هيمنتها المطلقة على الانظمة السياسية الاستبدادية في بلدانها. ولم يجد اوباما حرجا من الدعوة لتطوير العلاقات مع هذه 'الانظمة. وفي الوقت نفسه استطاعت هذه الحكومات التأثير على السياسات الخارجية الامريكية خصوصا في مجال الديمقراطية وحقوق الانسانٍ، بازاحتها من قائمة اولويات السياسة الخارجية الامريكية. ولذلك فما ان حدثت ثورة 'تونس حتى كان الرئيس الامريكي يتأرجح بين دعمها ودعم الرئيس التونسي الذي كان يتمتع بدعم الغرب وقبوله منذ ان تولى الرئاسة قبل 23 عاما. ثم جاءت الثورة المصرية لتزيد حيرة الرئيس الامريكي وتجعله أكثر تخبطا. وقد لوحظ في خطابات الرئيس مبارك الاخيرة تحسسه مما يعتبر 'تدخلات خارجية' موحيا برفضه تلك التدخلات وداعيا الى احترام مصر كبلد ذي سيادة ولا يقبل لنفسه السماح للخارج بالتدخل المباشر.

الرئيس الامريكي عبر عن تعاطفه اللفظي مع حركة 'الشارع المصري، ولكنه لم يتخذ موقفا حاسما تجاه ثورة الشعب. وبقيت هذه سياسته على امل ان تؤدي اطالة أمد الثورة الى تراخي المتظاهرين وتشتتهم التدريجي. وعندما ادرك حتمية سقوط النظام بادر لممارسة المزيد من الضغط بدعوة نظام مبارك للشروع في الاصلاح 'فورا'. وبذلك تبدو واشنطن وكأنها دعمت الثورة ولم تتخل عن نظام مبارك.

وبالاضافة لذلك كان للسياسة الخارجية السعودية دورها في الضغط على الولايات المتحدة لعدم التخلي عن نظام مبارك، وعدم السماح بإهانة رئيس اكبر دولة عربية. وما تزال الرياض تعمل من وراء الكواليس لاجهاض ثورة اهل مصر، لعلمها ان انتصارها مدخل لتغيير أشمل في المنطقة لن تستثنى منه السعودية. المعلومات التي رشحت تؤكد ان الملك عبد الله تحدث طويلا مع اوباما، وطلب منه حماية النظام المصري، الامر الذي وضع الرئيس الامريكي في حيرة، فهو يسعى لتغيير صورة امريكا لدى الشعوب، والحفاظ على نفوذها وتأثيرها في مصر بالتظاهر بتأييد ثورة الشعب، ومن جهة اخرى يواجه طلبا من السعودية والاردن و'اسرائيل' والبحرين بالحفاظ على نظام مبارك ايا كان الامر. الرئيس الامريكي نفسه يدرك ان واشنطن عاجزة عن التأثير على حركة الجماهير، وان مجال تأثيرها الوحيد ينحصر بالضغط على رموز النظام، وجنرالات الجيش. فالتغيير السياسي المطلوب للشعوب العربية لا يمكن ان يأتي من البوابة الامريكية التي فتحت طوال الوقت للحكام الديكتاتوريين، واوصدت بوجه طلاب الحرية ودعاة الديمقراطية. وما يزال السجال الايديولوجي والسياسية محتدما بين النخب السياسية والمثقفة في امريكا حول التوازن المطلوب بين التغيير الديمقراطي المطلوب والحفاظ على الامن الاسرائيلي.

ومرة اخرى تثبت 'اسرائيل' انها العامل الاصعب لعدد من الامور: اولها ان الولايات المتحدة الامريكية ما تزال متشبثة بمبدأ الحفاظ على امن 'اسرائيل' وضمان تفوقها الاستراتيجي على الدول العربية. وهذا ما كرره المسؤولون الامريكيون الاسبوع الماضي في لقائهم مع وزير الدفاع الاسرائيلي، ايهود باراك، في البيت الابيض. فقد كرر كل من وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، وتوم دونيلون، مستشار الامن القومي ووزير الدفاع، روبرت غيتس 'التزام امريكا الذي لا يتزعزع بالدفاع عن امن 'اسرائيل'، بما في ذلك الدعم العسكري المتواصل والتعاون الامني غير المسبوق بين الحكومتين'. ثانيها: ان تل ابيب دخلت على الخط في الثورة المصرية بشكل مباشر، فهي تمارس الضغوط المتواصلة على الحكومات الغربية للاستمرار في دعم نظام مبارك، وتنسق السياسات مع المملكة العربية السعودية لضمان اوسع دعم ممكن لهذا النظام، ويتردد ان عناصر استخباراتها تعمل بشكل حثيث داخل مصر لإضعاف الثورة. ثالثها: ان 'الولايات المتحدة ربطت مصالحها الاستراتيجية بالامن الاسرائيلي، ونظرت الى كافة التطورات في المنطقة من خلال ذلك. فما يضر 'اسرائيل' يعتبر اضرارا بالمصالح الاسرائيلية، وما تريده 'اسرائيل' من استمرار بناء المستوطنات، مقبول لدى واشنطن.

هذا الترابط العضوي من اخطر ما يهدد المصالح الامريكية من وجهة النظر العربية، وبالتالي اصبحت الولايات المتحدة اسيرة لقرارات تستطيع الانفكاك منها. ولو اجرت استفتاء للرأي العام الامريكي توضح فيه اضرار ذلك الترابط على المصالح الامريكية لما وجدت من يدعم سياساتها التي تراجعت حظوظها في الاسابيع الاخيرة. فبسبب هذا الترابط العضوي مع كيان الاحتلال الاسرائيلي وانظمة الاستبداد العربية، اصبحت الولايات المتحدة هدفا للكراهية لدى الرأي العام العربي والاسلامي، واستهدفت سياسيا وامنيا من قبل المجموعات المتطرفة، ودفعت اثمانا باهظة لتلك السياسات بلغت ذروتها في حوادث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية. وبدلا من ان يضغط الرئيس اوباما على بنيامين نتنياهو لوقف بناء المستوطنات والالتزام بقرارات مجلس الامن الدولي ضد الكيان الاسرائيلي، تراجع البيت الابيض عن المطالبة بذلك واصر على الاستمرار في ما يسمى 'عملية السلام' برغم عدم جدوى ذلك. وبدلا من مطالبة السعودية بتطوير نظامها السياسي وفتح باب الحريات والتخلي عن قمع حقوق الانسان، غير البيت الابيض خطابه تجاه مصر وطالب 'بتحول منظم' وتجاهل مطالب الثورة بتغيير النظام.

وبهذا اصبح الوضع السياسي في بلدان الشرق الاوسط مفتوحا على كافة الاحتمالات. فالتغيير سوف يحصل طال الزمن ام قصر، خصوصا بعد سقوط حسني مبارك واندلاع الثورة في اليمن والبحرين، وربما الاردن كذلك. والواضح ان السيناريو الايراني الذي حدث في 1979 بدأ يتبلور بسقوط حسني مبارك ونظامه ومعهما النفوذ الامريكي في الدولة العربية الكبرى. فبينما بدت امريكا عندما اندلعت الثورة متناغمة مع رغبة الشعب المصري في التغيير، تحولت تدريجيا لتصبح اكثر تناغما مع ما تريده السعودية و'اسرائيل'، الامر الذي ستكون له نتائج كارثية. وربما هذا هو الامر الطبيعي. فالولايات المتحدة لا تستطيع ان تتحول من دولة امبريالية تعتمد على القوة في تعاملها مع شؤون العالم، وتدعم الاستبداد والاحتلال الى كيان يدعم الديمقراطية ويدافع عن حقوق الانسان ويقر بحق الشعوب في تقرير مصائرها. لو حدث ذلك لكان معجزة، اما عدم حدوثه فذلك هو التوقع المنسجم مع السياقات التاريخية للسياسات الامريكية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. فأمريكا كانت، وما تزال، من اكبر اعداء التغيير والاصلاح في العالم العربي، وهي تمارس انتقائية رخيصة في سياساتها الخارجية. انها 'تواجه الدول غير الصديقة وان كانت تمارس الديمقراطية، وتتغاضى عن الانظمة الصديقة ولو كانت قمعية واستبدادية او محتلة. هذا التناقض البارز في السياسة الامريكية من بين اسباب تعقيد الاوضاع العربية وتراجعها لان النفاق السياسي من أخطر الظواهر في النظام السياسي الدولي في الوقت الحاضر، وتستحوذ الولايات المتحدة على الشطر الاكبر منه خصوصا في تعاملها مع قضايا الشرق الاوسط. وعلى واشنطن ان تستعد لدفع فواتير خسائرها السياسية في مصر والبلدان العربية التي تتحرر من حكامها المستبدين، بثوراتها الشعبية ودماء شبابها التي تراق في اعمال الاحتجاج التي لا تتوقف. فمنذ ان خرج مارد التغيير من قمقمه اصبحت الاطراف الداعمة لذلك الاستبداد عاجزة عن وقف مسيرة التغيير خصوصا للأنظمة المحسوبة على الفلك الامريكي.

وهكذا يستمر الصراع حول التغيير المحتوم في العالم العربي، بين الشعوب التي تعمل لتحقيق التغيير، والحكومات الاقليمية والغربية التي تخطط ضد ذلك، ابتداء بالسعودية، مرورا بالبحرين ووصولا للاردن واليمن والجزائر. هذا الصراع ليس من اجل صناديق اقتراع تؤدي الى مجالس غير ذات جدوى كما حصل طوال العقود الثلاثة الماضية، بل المطلوب شراكة سياسية حقيقية من قبل كافة الاطراف الوطنية المطالبة بالاسراع، والداعية لتحكيم العقل واحترام الحريات العامة وإشاعة مفاهيم الاصلاح السياسي الحقيقي. وربما تأخر التغيير المنشود طويلا، ولكن ثورتي تونس ومصر اختصرتا طريق النضال، وجعلتا الشعوب الناهضة قادرة على الصمود بوجه آلة الموت السلطوية، وموانع الاصلاح والتغيير التي يضعها اعداء الأمة بهدف ابقائها في سبات دائم، بعيدا عن اجواء الاصلاح والتغيير. وكما يقال فرب ضارة نافعة. فتلكؤ الرئيس المصري عن الرحيل، وتشبثه بمنصب الرئاسة حتى اللحظات الاخيرة ساهم في انضاج الوعي الجماهيري بضرورة الاعتماد على النفس لتحقيق الاهداف المنشودة، خصوصا اذا كانت هذه الاهداف معقولة ومعتدلة ومنسجمة مع روح العصر. انها اهداف تشترك فيها الشعوب العربية بدون استثناء لانها تعبير عن الفطرة الانسانية المؤسسة على حب الخير ورفض الظلم، ومنح الناس حرياتهم، والتوقف عن قمع من لا يساير منهم اصحاب القرار السياسي المباشر. هذا التوازن هو الذي كان الثوار المصريون يبحثون عنه ويصرون على تحقيقه. كانوا يبحثون عن وسائل للخروج من الشرنقات الامنية والسياسية والاخلاقية بأقل الخسائر المتوقعة. لقد خرج ثوار مصر من معاقلهم ليجهزوا على النظام المنحل بدون ان ينتظروا 'مبادرة خارجية، من امريكا او غيرها. لقد كان امام واشنطن فرصة ذهبية قلما تتوفر، وذلك باظهار سلوك مختلف عن السلوك الذي ألفوه سابقا، عندما كانوا يأملون برؤية تغير ملحوظ في السياسات الخارجية الامريكية، يحقق قدرا من المصداقية لدى الثوار، الراغبين في التغيير الايجابي وعدم الجمود على انظمة حكم عصرية قادرة على تلبية طموحات ابنائها والذود عن حماهم وتوفير العيش الهانئ لهم. لو فعلت واشنطن ذلك لتغيرت نظرة العرب والمسلمين لها، ولأصبحت صديقة بعد عقود من العداء المدمر.

' كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

التعليق

آخر الاخبار