عاجل:
مقالات 2008-06-25 03:00 651 0

العراق: سيف وخيل وبيداء

من غرائب التأريخ انه إذا أعاد نفسه بدورة زمنية محددة فانه يعيد معه مسببات الحدث وهذا ما اعتاده العرب عاربتهم ومستعربتهم

من غرائب التأريخ انه إذا أعاد نفسه بدورة زمنية محددة فانه يعيد معه مسببات الحدث وهذا ما اعتاده العرب عاربتهم ومستعربتهم في تعاملهم مع العراق في علاقة بنيت على محاولة تدمير النموذج الحضاري العراقي.
وهي محاولة ناتجة دوما من مبدأ ية الصراع بين الحضارة التي يمثلها العراق - الخصب الزراعي و الثقافي - وبين البداوة التي تمثلها - الصحراء , النكوص و السلفية , وهي مع الأسف مواصفات الجوار العربي الشقيق ، وأعداء العراق اليوم هم ذاتهم أعداءه يوم تشكلت (( الأمة العربية )) بسيوف فهر وقيس وقريش , ورسخت هذه السيوف وهما وزيفا بانتساب لا معنى له عند من خلقها جل في علاه إلى عدنان أو قحطان , ومنذ ذلك الحين كان هناك تصنيف متعالي للبشر الذين سكنوا هذا المستوطن السكاني الأول. فالفاتحون - البدو الذين لم يتمكن الإسلام بعد من تغييرهم ومن ترسيخ مفاهيمه السامية في أنفسهم - ولا نظنه استطاع ذلك بعد أربعة عشر قرنا - وجدوا أنفسهم متخلفين كثيرا أمام العراقيين بإرثهم الحضاري الموغل بالقدم , وكانوا لا يمتلكون عمليا الشئ الذي يستحق الاعتزاز سوى السيف والخيل والبيداء - وهي أدواتهم الحضارية الوحيدة - وهي بالتأكيد لا تصلح لبناء حضارة - وهكذا وجد العراقيين أنفسهم وهم يحتضنون الإمام علي بن أبي طالب    ( عليه السلام ) الخليفة الراشد المنتخب , والذي اختار عن وعي سياسي متقدم احد مدن العراق - الكوفة - لتكون عاصمة لدولة العدل الإلهي التي قيض له أن يقدمها كنموذج أوحد وامثل تفردا على مر التأريخ ........
فاصطف العراقيون خلف علي ( عليه السلام ) لوعي سياسي متقدم ايضآ مقتنصين الفرصة التاريخية ليسهموا في إنشاء هذا النموذج، ليس لأنهم بحاجة له فقط، بل لأنهم يمتلكون القدرة على استيعابه واستيعاب متطلباته ولديهم أدواته ,  وهكذا ايضآ قدر للعراقيين أن يكونوا سدا حضاريا بوجه الهمجية البدوية , فبالوقت الذي كان فيه العراقيين قد استوعبوا الرسالة الإسلامية بسرعة لينطلقوا بها إلى آفاق تخدم الإنسانية وليؤسسوا إلى ما بات يعرف اليوم بالحضارة الإسلامية وليكونوا ليس فقط عماد هذه الحضارة ومؤسسيها وناشريها بل وحماتها . في حين كان اعاريب الجزيرة العربية ينطلقون بخيلهم شرقا وشمالا وغربا لا من اجل نشر الإسلام حسب، بل من اجل ذلك ظاهرا ومن اجل غنائم الفتح بصورة رئيسية، وليشبعوا غرائزهم الوحشية في استيطان الأراضي الخضراء التي لم يعهدوها من قبل، ليبني لهم سكانها قسرا قصورا ملأ وها بالجواري والغلمان من أهل البلاد المفتوحة، وليعبوا أفواههم بخمور الاندرينا. ولأن عليا(عليه السلام) كان معيارا صادقا نقيا للطهر الإلهي،التف حوله العراقيين مشايعين إياه بما يحمل من فكر وأمل وزهد وإنسانية ،أليس هو صوت العدالة الإنسانية كما يقول المنصف جرجي زيدان ؟ ولم يجد العرب سوى معاوية الوالي الآبق الخارج على طاعة الخليفة المنتخب شرعيا ودستوريا والمدعوم بالنص الإلهي،لينازعه سلطة الحق ،وتغاضوا عن الأكباد الطاهرة التي لاكتها أمه كما تغاضوا عن راياتها احمر، ووقفوا معه وخلفه مدفوعين ببوهيميتهم وغرائزهم فكانوا في صفين عبيدا لشهواتهم تدفعهم إلى هذا الموقف بداوة لم يستطع الإسلام من انتزاعها من أنفسهم ،فكانت صفين منازلة أولى بين الحضارة والبداوة ،بين العراقيين بعمقهم الحضاري وخيارهم الإنساني،وبين الاعراب الذين التفوا حول ابن أبي سفيان...ولم تنتصر الحضارة حينها لكنها لم تهزم.. وبعيد صفين بقليل أعاد العرب كرتهم بالهجوم على العراق الذي دعا الحسين (عليه السلام) ليكمل رسالة الحضارة التي حملها أباه،وهذه المرة استحضروا كل همجيتهم فقتلوه في يوم هو الأسوأ في تاريخ البشرية ، وسجل ذلك اليوم في صحيفتهم اسودا بامتياز لن يستطيعوا الفكاك منه إلى يوم الدين،لكنهم من يوم ذاك إلى يومنا هذا استباحوا العراق وجاءوا في كل حقبة باوعر رجالهم ليتسلطوا عليه، فأباحوه أولا لعبيد الله بن زياد بن أبيه - لاحظ ابن أبيه – فاتخذ الناس خولا ليزيد بن معاوية ،ثم كان من بعده (حجاجهم الثقفي) ليرى رؤوس العراقيين قد أينعت وحان قطافها، وتكر الكرة بدوا طغاة دمويين ليأتي من بعدهم بدوا طغاتا أكثر دموية، فكان السفاح مؤسسا لدولة تتخذ من ارض الخصب والنماء مستقرا  تزرع فيه أعواد المشانق في كل صقع ، وكانت الأجساد الطاهرة تبقى على المشانق حتى يعشش فيها الطير، ويبني احد ملوكهم (هارون) قصرا  فيه ثلاثين ألف جارية وغلام ، ولا يحلو له النوم إلا على وسائد من ريش النعام، وفي ذلك كله كان صبر العراقيين أكثر من عجيب، فمع أنهم يذبحون يوميا ، إلا أنهم مضوا بثبات بمشروعهم الحضاري الإنساني ، فأنشأوا بأيديهم العارية ـ يومها لم تكن هناك ألآت ـ  قصورا ومساجد وبيوت حكمة ومدارس مستشفيات وسدودا وشقوا ترعا وانهارا ، ثم بنوا بغداد لتكون أجمل ما في الدنيا فيما ( الخليفة) البدوي العربي يطوف بالليلة على ألف من الغيد الحسان ، ليحكم بالصباح بكتاب الله! ويهب من يشاء صررا صررا على بيت من الشعر قيل في مدحه وإطراء فحولته!! ويمضي الحاكم العربي البدوي إيغالا في إجرامه وطغيانه على العراقيين ، فيفتح الباب على مصراعيه لطغاة صغار ، فيتسيد رجال من الترك  المماليك على رقاب العراقيين ليعملوا فيها السكين بابشع الأساليب ، وليغرقوا البلاد في بحور من الدماء، والخليفة البدوي العربي مكتفيا بقصر فيه قيان وشراب وعازف العود زرياب ! تاركا لأجمل جواريه عشيقته (شوق)  تصريف أمور البلاد ومقابلة الولاة والقضاة وقبض أثمان المناصب التي كانت تعرض بالمزاد فينالها من يدفع أكثر، والمال يجبى من العراقيين بالسياط ليسلمه الجباة بعد استقطاع نصيبهم فيه إلى خزانة أمير المؤمنين خليفة المسلمين ! الذي خاطب يوما غيمة عبرت فوق رأسه (اذهبي أنى شئت فخراجك عائد ألي) لينفقه كما يشاء ، وكل ذاك الظلم والعذاب سيم به العراقيين لأن الحضارة والثراء صنوان وبلادهم أثرى البلاد فكانت موئل الطامعين ، وسيموه لأنهم اختاروا أهل الحضارة ومعدن العلم وبيت الرسالة آل بيت النبوة (عليهم السلام) فمنحوهم ولائهم.
      وبذل وخنوع سلم الخليفة العربي البدوي بغداد أم البلاد وزينة الدنيا وبهجتها إلى بدو من ذات طينته ، لكنهم هذه المرة يرطنون بغير العربية التي كانت عنوان فخره(...) رعاة قساة، مغولا من التتار قدموا من أواسط أسيا يمتلكون نفس أدوات الأعراب، السيف والخيل والبيداء، وسرعان ما (تفاهم) بدو العربان مع بدو المغول فالتقوا في منطقة وسطى حينما اعتنق التتار الإسلام على مذهب الأعراب لأنه يحقق لهم المرام في سلطة سهلة رخية بلا اعتراض، فيما ارتضى الأعراب بدور (العسس) فأصبحوا رجال امن للسلطة الجديدة! وانزوى رجال الدولة العرب البدو الأصول بحتمية تاريخية فرضت عليهم بسيادة الأقوى، وقبلوا الإحتلالات الأجنبية المتكررة مقدمين لها فروض الطاعة بذرائعية عجيبة، فما دام السادة الجدد على ذات مذهبهم فطاعتهم واجبة، واستخرجوا من بطون الكتب أحاديث، كـ ( لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)، وفي هذا كله خسرت البشرية فرصة أخرى من فرص التقدم الحضاري الذي لم يكن له مع السف أهل كالعراقيين الذين كانوا يذبحون بالآلاف كالخراف.
    وبذات الذرائعية أيد الأعراب وبفتوى من فقهائهم تسيد آل عثمان الترك ـ الفاتحين الجدد ـ فأجيزوا أن يكونوا خلفاء وتحول الغزو العثماني إلى خلافة إسلامية مشروعة بل واجبة الطاعة، أما حديث رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) الذي بموجبه قبلوا خلافة بني العباس وقبلهم بني أمية ( الأئمة من بعدي من قريش ) فقد أحاله الفقهاء على التقاعد ! لأن المشروعية للأقوى، أما النص فليبقى في بطون الكتب يستخرج عند الحاجة! وتلك المشروعية الزائفة تمتد سحيقة إلى جذر الذي قال تلقفوها تلقف الكرة ، كأنما يفصح بفضاضة فجة عن مكنونات ثابتة لفلسفة  اعتنقتها جماعة  فأضحت منهجا للطريق ومسلكا لحياة الأعراب فسلكوه!
    وما إن تخلصت البشرية من قرون الظلام بعيد الحرب الكونية الأولى ، منهية وجود من تجاوزه التاريخ(الرجل المريض )  وهو ما كان يطلق على الدولة العثمانية التي سقطت منهكة متعبة ممزقة في حرب خاضتها عساكر السلطان  بالسيوف و( طوب أبو خزامة ) فيما جيوش أوربا أدخلت الدبابات قيد الاستعمال !..عند ذاك استفاق الأعراب من رقدتهم التي استمرت ستة قرون لييمموا وجههم صوب العراق مجددا ، محتلين إياه في دورة تاريخية جديدة وليستجلبوا لعرش العراق ملوكا من بدو الجزيرة العربية ، وكأنما قدر للعراق أن لا يحكمه أبناءه منذ آخر حاكم عراقي تبوأ عرش بابل بالألف الأول قبل الميلاد .. وليحكم العراق تحت ذات المعادلة ، حيث أقلية من الاعراب ،بكل نكوصهم وارتباطهم بالماضي ، تحكم شعبا بنى أول حضارة على الأرض واخترع أول حرف للبشرية ،وهو الذي شغل ثلثي التاريخ البشري، وابتدأت صفحة من التاريخ ادلجت فيها العروبة واستخرج لهم ( نبي القومية العربية ) ساطع ألحصري من بطون الكتب الصفراء القديمة مصطلح (الشعوبية ) ليوصف به اكثر العراقيين وذلك في محاولة لتزوير التاريخ ولإلغاء العروبة عن العراقيين ،وشتان مابين العروبة والأعراب!
لقد شقت الأموية من جديد طريقها إلى حكم العراق ، وانبرت متحدة اتحادها التاريخي مع قومية عبد الناصر ،ومع القبائلية الآتية من نجد والحجاز ،فنجحت في إزاحة رجل ربما الأول منذ آخر حاكم تبوأ عرش بابل بالألف الأول قبل الميلاد،فأسقطت عبد الكريم قاسم بعد أن ألصقت به صفة الشعوبية ، ليخضع العراق لاحتلال القوى الأموية الشامية تحت اسم البعث العربي الاشتراكي ببريق شعاره الشوفيني (امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) طارحا أهدافا متناقضة بالمحتوى والنتائج، فحكم العراقيين بحديد ونار ،فيما العروبيين يتنعمون بخيراته ،وأربعين عامامنذ1963 لغاية 2003ارسل العراقيين إلى محارق العروبة في ثلاثة حروب خارجية ،واحدة مع الجارة إيران كان شعارها ( حراسة البوابة القومية للأمة العربية)والثانية احتلوا فيها الكويت لتحرير فلسطين !! وثالثة حاربوا فيها أقوى قوى العالم ببنادق كلاشنكوف هي كل ما تبقى من تيك الحربين!!وبين هذه الحروب كانت حربهم (المقدسة ) مستمرة ضد (الشعوبيين الشيعة) وضد الأكراد معان الكرد هم أقدم أهل العراق!
أعداء العراق اليوم هم هم لم يتبدلوا ،لا أدواتهم قد تبدلت ولا شعاراتهم اعتراها التغيير ، فالسيف والخيل والبيداء مازالت تحت التداول القومي وما زال الشعار ذاته ، الأمة  والقومية والصف العربي ، اليوم هم خارج كراريس التاريخ ولكن لا يعلمون(متى علموا؟)،يحاولون كتابة تاريخ فج سمج مملوْ بالأحاديث الممغنطة ، جاذبة لكل مفردات الحرص على عروبة العراق ووحدته بمغالطة استعملت للمرة المليون،كأنما إذا ساس العراقيين أنفسهم وحكموا بلدهم برجالهم يكونون قد فقدوا عروبتهم! كأنما العروبة و الإنعتاق من الظلم متضادان وربما هما كذلك.

التعليق

آخر الاخبار