عاجل:
مقالات 2010-12-12 03:00 511 0

الجانب الإعلامي في الثورة الحسينية

الجانب الإعلامي في الثورة الحسينية / يُعدُّ الإعلام من أهم الأعمال السياسية والجهادية التي يمكن أن يقوم بها الداعي إلى الله

الجانب الإعلامي في الثورة الحسينية / يُعدُّ الإعلام من أهم الأعمال السياسية والجهادية التي يمكن أن يقوم بها الداعي إلى الله تعالى، ولذلك نرى أنَّ العمل الرئيسي الأوّل لكل الأنبياء، هو إبلاغ الرسالة وإيصالها إلى الناس، وقد ورد التأكيد على ذلك في القرآن الكريم، فقد قال تعالى:(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً).
وقال تعالى: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}.
وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وقال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ). وقال تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، فتلاوة الآيات المذكورة في الآية الشريفة هي عبارة عن البلاغ وإيصال الرسالة إلى الناس وإفهامهم إياها، وهي المهمة الأولى للرسول.

أبعاد الإعلام الرسالي
لابد أن يُدرس الإعلام - الذي هو البلاغ - من أبعاد عديدة:
البعد الأول: الهدف الذي يسعى إليه البلاغ والإعلام، وهذا من خصائص الإعلام أو البلاغ الرسالي الذي يلتزم بتعاليم الله سبحانه وتعالى، وبالمبادئ الآلهية، والذي يكون من ورائه أهداف سامية تصب في خدمة الفرد والمجتمع بخلاف إعلام الحضارة الماديّة الغربية الذي يرتكز على إثارة المشاعر والعواطف والغرائز بشكل رئيسي، ويُروّج لنفسه قبل أن يُروّج لأي شيء آخر.
البعد الثاني: موضوع الخطاب السياسي في الإعلام.
البعد الثالث: الوسائل المستخدمة لإيصال الرسالة وإبلاغها وتوضيحها لعامة الناس.
وعند مطالعة ملحمة كربلاء نجد أنّ الإمام الحسين(عليه السلام)اهتم في ثورته بهذه الأبعاد الثلاثة:
البعد الأول: تحديد الهدف
إن هذا البُعد يرتكز على معرفة الهدف من النهضة الحسينية، وتقدم أنّ هدف الإمام الحسين (عليه السلام) من نهضته هو توعية الأُمة وإيقاظ ضميرها، ولم يكن هدفه الوصول إلى السلطة، لا لأنّ ذلك هدف غير مشروع ـ بل هو من الواجبات الشرعية على الدعاة والرساليين، وهو حق من حقوق الحسين(ع)باعتباره إماماً وصاحب الحق في الحكم ـ بل لأنَّه كان يعرف من أول انطلاقه وتحرّكه أنّ هذا الأمر لا يمكن تحقيقه آنذاك، كما عرف ذلك الكثير ممن كانوا يعيشون قريباً منه(ع). ولاشك أنَّ الحسين (ع)أدرى وأعرف وأخبر منهم بالأوضاع التي كان يعيشها المسلمون في ذلك العصر، وهناك عدة نصوص على لسان الحسين(عليه السلام)تؤكّد هذه الحقيقة.
إنَّ هدف الإمام الحسين(عليه السلام)من نهضته، هو توعية الأُمة وإيقاظ ضميرها وكسر الأغلال والقيود عن إرادتها التي بدأت تفقدها بسبب ظروف القهر والقمع الذي كان يمارسه معاوية ومن بعده يزيد من ناحية، ومن ناحية ثانية ظروف الخدر الحضاري المعاشة، من قبيل كثرة الأموال والإمكانيات الدنيوية بعد أن فُتحت للمسلمين بلاد واسعة وجُبيت لهم الأموال من كلّ مكان، حتى أصبحت حالة الاهتمام بالدنيا وشهواتها مؤثرة على إرادة الإنسان، مما جعله يفقد بالتدريج إرادته وقدرته على الحركة,كما أنه (عليه السلام) استهدف إلقاء الحجة الشرعية في توضيح الموقف الشرعي للمسلمين، حيث واجه المسلمون لأوّل مرة في ذلك الوقت قضية مهمة وأساسية، وهي: هل يجوز القيام بوجه الحاكم إذا بلغ درجة عالية من الظلم، يتخذ فيها عباد الله خولا ومال الله دولا، أو لا يجوز؟
لقد واجه المسلمون آنذاك هذه المشكلة، حتى باتوا يشككون في جواز الخروج، وقد كان للسلطة دور خبيث في تضليل الناس، فنسبت إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) روايات كثيرة - من خلال بعض الأشخاص المأجورين من وعّاظ السلاطين وممن يسمون أنفسهم بالصحابة وينسبون أنفسهم إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - تحرّم الخروج على الحاكم مهما تجبَّر واعتدى وتجاوز وظلم، وبالتالي يجب التسليم له والقبول بحكمه، حفظاً لوحدة المسلمين وصوناً للدماء وما إلى ذلك من تبريرات قد تنطلي على الكثير من بسطاء الناس، كل ذلك من أجل الحفاظ على سلطانهم وحكمهم وتسلطهم على رقاب الناس.
وقد وجد الحسين (عليه السلام) نفسه أمام حكم شرعي لا يمكن لأي أحد من الناس تبليغه غيره، باعتباره الإنسان الأصلح للقيام بهذه المهمة، لما يتمتع من مواصفات وخصائص فريدة ومميَّزة، مضافاً إلى وضوح انتساب موقفه إلى الشرع والإسلام.
فبيان الموقف الشرعي من الحاكم الجائر هدف مهم جداً استهدفه الحسين (عليه السلام)من حركته ونهضته، وركَّز عليه في كلماته وتصريحاته وجعله مصب إعلامه.
البعد الثاني: الخطاب السياسي للحسين
أمّا الخطاب السياسي الذي يستخدم في النهضة وفي الثورة فيجب أن يكون قادراً على تحقيق الهدف، وعلى جعل الأُمة تتفاعل مع النهضة والثورة.
ولذا فالإمام الحسين(عليه السلام)كان يريد معالجة قضية مركزية ورئيسية في الأُمة، عندما تحدّث في ثورته وفي خطابه السياسي منذ بداية نهضته حتى مصرعه، وهي بيان وتثبيت الموقف الشرعي تجاه ظاهرة الطغيان اليزيدي، ورفع الظلم والحيف عن الأمة الإسلامية المضطهدة من قبل هذا الحاكم المستهتر بالقيم والشعائر الإسلامية، ووجوب قيام المسلمين في وجه هذا الظلم والاضطهاد.
ولم يتحدث (عليه السلام) عن موضوع الإمامة، ولا عن امامته وكونه الأحق بالخلافة والسلطة، وأنه منصوب من قبل الله تعالى ومن قبل الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي نصَّ على إمامته، وإمامة أخيه الحسن(عليهما السلام)في مواضع عديدة، وقال مراراً: ((ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا)). مضافاً إلى حديث الثقلين المتواتر والذي بيَّن فيه (صلّى الله عليه وآله) دور أهل البيت(عليهم السلام)في الأمَّة كما نصَّ على إمامتهم بأسمائهم في جملة من النصوص الواردة في هذا الموضوع.
كما انه ركَّز في خطابه (عليه السلام) على جانب آخر، وكان له الأثر البالغ في إيقاظ الضمائر وهزّ الوجدان وتحريك المشاعر، وهو إثارة العواطف والأحاسيس والمشاعر، من خلال تذكير الناس بانتسابه إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وإلى أمير المؤمنين(عليه السلام)، وإلى الزهراء(عليها السلام)، كقوله (عليه السلام) لمعسكر ابن زياد (لعنه الله): ((...فانسبوني فانظروا من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا، هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم (صلّى الله عليه وآله) وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله بما جاء به من عند ربه؟ أوليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أوليس جعفر الشهيد الطيار ذو الجناحين عمي؟ أولم يبلغكم قول مستفيض فيكم أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟)).
وقوله: ((..فوا لله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم)). وقوله مخاطباً أهل الكوفة: ((...أنشدكم الله، هل تعرفوني؟ قالوا: نعم،كي أنت ابن رسول الله وسبطه. قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أن جدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أن أمي فاطمة بنت محمد (صلّى الله عليه وآله)؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أن جدتي خديجة بنت خويلد، أول نساء هذه الأمة إسلاما؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أن سيد الشهداء حمزة عم أبي؟ قالوا: اللهم نعم. قال: فأنشدكم الله هل تعلمون أن جعفر الطيار في الجنة عمي؟ قالوا: اللهم نعم. قال: فأنشدكم الله، هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنا متقلده؟ قالوا: اللهم نعم. قال: فأنشدكم الله، هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنا لابسها؟ قالوا: اللهم نعم....)).
هكذا كان يتحدّث الإمام الحسين (عليه السلام) مع أهل الكوفة، حيث كان يثير في خطابه قضايا مؤثرة في الجانب العاطفي والمشاعري للمجتمع الذي كان يعيش فيه.
وهذا يعطينا درساً في موضوع الإعلام، وهو: أنَّ كل عمل إعلامي يراد منه توعية الجماهير وتحريكها وتعبئتها باتجاه الهدف الأساسي والتفاعل معه، لابدَّ أن ينطلق من نقطة مركزية تمثل القضية التي تمس ضمير الجمهور، وتتفاعل مع مشاعره وعواطفه، ومن زاوية ما يدركه الجمهورـ بالفعل ـ من القضية ومصالحها العامة التي تنطلق من واقع الظروف السياسية والاجتماعية، وضمن نطاق الفكرة الصحيحة المتبناة.
وبعبارة أخرى: يجب أن يكون الخطاب السياسي ملمّاً بالأوضاع القائمة في الأمة، وبالتالي لابد أن نفتّش بصورة واقعية عن القضايا التي تمس ضمير الجمهور، والزوايا التي يتفاعل معها، لتكون هي نقطة البدء بالتخاطب معه، لا أن يكون الحديث عن المبادئ والقيم والمفاهيم ـ فحسب ـ مهما كانت مستدلَّة وصحيحة وحقَّة .
فالإمام الحسين(عليه السلام)كان بإمكانه أن يطرح نظريات عقائدية كثيرة، قد تكون الأمّة بحاجة إليها آنذاك كقضية الإمامة، حيث يوجد انحراف في فهم هذه القضية المهمة والحسّاسة، أو يطرح قضايا مرتبطة بالإيمان والكفر، لكنه(عليه السلام)لم يشغل نفسه بشيء من هذه الأُمور الحقّة؛ لأنّ هدفه الأساسي هو توعية الأُمة تجاه قضية رئيسية ومركزية كانت تعيشها، وسوف تعيشها في كلّ جذورها، لذا اهتم (عليه السلام) بها، مضافاً إلى إثارة العواطف والمشاعر; لأنه يعرف أنّ الأُمة
لا زالت تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، ولا زالت تحترم البيعة عندما تبايع، فإذا تخلّت عن هذه البيعة فمعنى ذلك أنَّها تخلَّت عن العهد والميثاق، وهذا شيء معيب ومستهجن يستحق صاحبه الذم، وهذا الأمر كان يدركه الناس في زمن الإمام الحسين(عليه السلام)، ولذلك فإنّ الذين بايعوه (عليه السلام)، ثم نقضوا البيعة والعهد أخذوا يتهرّبون أو يكذبون حينما حاججهم الحسين (عليه السلام) وقال لهم: ((ألم تكتبوا ألي أن قد أينعت الثمار، واخضر الجناب، وطمت الجمام، وإنَّما تقدم على جند لك مجنَّد..، قالوا له: لم نفعل)) أو كانوا يخفون وجوههم عنه (عليه السلام) في ساحة المعركة دفعاً للإحراج، ولم يجرء منهم أحد ويقول: بايعناك ونقضنا بيعتك.
إذن، فالإمام الحسين(عليه السلام)استخدم خطاباً سياسياً مهماً جداً ينبغي الالتفات إليه والاستفادة من المفردات التي وردت فيه لننتفع منه في عصرنا الحاضر.

البعد الثالث: وسائل الإعلام الحسيني
لقد استخدم الإمام الحسين(عليه السلام)وسائل خاصة وناجعة في الإعلام والإعلان عن تحركه ونهضته، كان لها الأثر البالغ في مشاعر الناس وعواطفهم والتفافهم نحوه، كما كانت لهذه الوسائل الدور الكبير في ديمومة الثورة واستمرارها وحيويتها في قلوبهم.
ويمكن توضيح ذلك من خلال النقاط التالية:
النقطة الأولى: الطريقة الواضحة في رفضه (عليه السلام) لبيعة يزيد، واتخاذه الموقف الصريح والمعلن تجاهها، فقد رفض (عليه السلام) بيعة يزيد علناً وأمام واليه في المدينة وأعدّ عدته لذلك, حيث ذهب إلى الوالي ومعه جماعة من مواليه وأمرهم بحمل السلاح؛ ليبين للأُمّة من خلال ذلك الموقف الشرعي من الحكم، وليعلن للناس جميعاً بالمقدار الذي يمكن أن يستوعب هذا الحدث، أنَّه رفض هذه البيعة، وهذه وسيلة من وسائل الإعلام المعبّر عن القضية.
وهذا بخلاف موقف عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن ابن أبي بكر، عندما بعث خلفهم والي المدينة ليأخذ منهم البيعة، فقد رفضوا البيعة بشكل غير علني، ولم يعبروا عن هذا الرفض الذي كان عبارة عن عملية فرار من اتخاذ هذا الموقف ثم إنَّ الحسين (عليه السلام) خرج من المدينة إلى مكة بشكل علني، حيث سلك الطريق العام الذي يسلكه الناس عادة، ولم يتخذ طريقاً آخر للتخلص من المطاردة بعد ما أُشير عليه بذلك
ويُعد هذا عملاً إعلامياً مهماً، بخلاف ما صنعه عبد الله بن الزبير، حيث خرج في ليلة ظلماء من المدينة إلى مكة.
النقطة الثانية: لجوء الإمام الحسين (عليه السلام) إلى مكة المكرمة ـ دون غيرها ـ بعد ما طلبت منه البيعة في المدينة ورفضها، وقد اتخذ من مكة مقراً له لإعلان هذا الموقف واتخاذه.
وقد يتبادر إلى الأذهان من حركته هذه أنه أراد الحصول على مكان آمن، يأمن فيه من عدوان يزيد والدولة الأموية؛ وذلك أنّ هذا البلد الكريم يُعَدُّ حرم الله الآمن، وهذا أيضاً يفسر لجوء آخرين غير الإمام الحسين(عليه السلام) اليه، من قبيل عبد الله بن الزبير، غاية الأمر أنّ هناك فرقاً واضحاً بين الموقفين يتلخص في كيفية رفض البيعة، وطريقة الخروج من مكة، لكن الصحيح أن الإمام الحسين(عليه السلام)أراد أن يستفيد من هذا الموقع المقدس ليعلن رفضه للبيعة، وإيصال موقفه هذا إلى مساحة واسعة في العالم الإسلامي، حيث اتخذ من مكة المكرمة موقعاً لإيجاد هذا الاتصال مع مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وذلك عند اجتماع المسلمين من كلّ أقطار العالم الإسلامي في هذا المكان، لأداء فريضة الحج.
ومن المعلوم أنَّ الحج سابقاً لم يتم بالسرعة التي يتم بها الآن بعد توفر وسائل النقل والانتقال، وإنما كان الحجاج يقصدون بيت الله منذ فترة طويلة نسبياً، ولاسيما حجاج الآفاق، فأنًَهم كانوا يأتون مبكرين ويقيمون في هذه المنطقة حتى يحين موعد الحج.
فالإمام الحسين (عليه السلام) - مع الأخذ بنظر الاعتبار هذه الفترة المحدودة اتخذ من مكة المكرمة موقعا للاتصال مع مختلف أنحاء العالم، وقد قام (عليه السلام) في هذا المجال بحركتين:
الحركة الأولى: إرسال الرسائل إلى مناطق العالم الإسلامي المختلفة، كما تشير إلى ذلك بعض النصوص التأريخية، وللأسف أنّ هذه الأحداث لم تدوّن بكل تفاصيلها; لأنّ التأريخ يُدوّن عادة حركة الحكام والأنظمة، ولا يُدوّن غيرها من الحركات إلاّ بشكل محدود ومعتَّم عليه، ولكن مع ذلك نجد أنّ بعض النصوص التأريخية تشير إلى أنّه (عليه السلام) قام بمراسلة أهل البصرة واليمن ( 19)، ويمكن أن نفترض أنه راسل مناطق أُخرى من العالم الإسلامي حسب الإمكانيات المتوفرة لديه آنذاك.
الحركة الثانية: الاتصال المباشر بالحجاج الذين يأتون من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وحجاج الآفاق غالباً ما يمثلون طبقة وجماعة مؤثرة في المجتمع؛ لأنّ شروط الاستطاعة إنما تتوفر لهم من جانب الإمكانيات، ومنهم من يأتي أيضاً ليشهد المنافع والأغراض الأُخرى غير الحج، كالتجارة وغيرها.
فالإمام الحسين (عليه السلام)كان يريد أن يستفيد من الاتصال بهذه الطبقة المهمة، ومن عموم المسلمين القادمين من الآفاق المختلفة; لكي يوضّح الموقف الشرعي الذي هو أحد الأهداف الرئيسية لحركته (عليه السلام) من ناحية، وفضح النظام الأموي من ناحية أخرى
وهذا الأمر يلقي بالضوء على حقيقة موجودة في التأريخ وفي المجتمع الإسلامي لحدّ الآن، وهي: الاعتراف بصحّة ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) وشرعيتها. فأبيات الشافعي المعروفة في رثاء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام):
تـأوّه قلـبي والفـؤاد كئـيـبُ * * * وأرّق نومي فالسهاد عجيـبُ
فمن مبـلغ عني الحسـين رسالـةً * * * وإن كرهتهـا أنفس وقلـوب
ذبـيح بـلا جرم كـأنّ قميـصهُ * * * صبيغ بماء الأرجوان خضيـب
فللسيـف إعـوال وللـرمح رنـّةٌ * * * وللخيـل من بعد الصهيل نحيب
تـزلزلـت الدنيــا لآل محـمد * * * وكادت لهم صمّ الجبال تـذوب
وغـارت نجوم واقشعرت كواكب * * * وهتـك أستار وشـق جيـوب
يُصلّى على المبعوث من آل هاشـم * * * ويُغـزى بنـوه إنَّ ذا لعجيـب
لَـئِن كـان ذنبي حبّ آل محـمد * * * فذلك ذنـب لست منه أتـوب
هـم شفعائي يوم حشري ومـوقفي * * * إذا ما بدت للناظـرين خـطوب
تعطي صورة واضحة عن تأثير نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) عند المسلمين وتفاعلهم معها رغم أنّ أكثر المذاهب الإسلامية بل يمكن أن نقول جميعها ترى أنّ الخروج على الحاكم وإن كان متسلطاً بالجور وبالقوة أمر غير صحيح، وغير جائز من الناحية الفقهية.
فمع وجود هذا التصور الفقهي نجد أنّ هناك حقيقة يعترف بها عامة المسلمين - باستثناء النواصب، ومن شذ من هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بمسلمين - كما يعترف بها علماء الإسلام وفقهاؤه ومفكروه على مرّ العصور والأجيال، وهي: إنّ ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ثورة شرعية.
فهذا التسليم للشرعية الذي هو حالة عامّة موجودة في العالم الإسلامي، أحد الأُمور التي تفسره، هو: قيام الإمام الحسين (عليه السلام) بشرح موقفه وخلفية هذا الموقف للمسلمين الذين جاءوا إلى مكة المكرمة للحج، ثم نقلوه بدورهم إلى بلاد الإسلام عامة حتى أصبحت هذه القضية من القضايا الواضحة، ولا سيما أنّ وسائل الإعلام كانت محدودة آنذاك، ولم تكن واسعة كما هي عليه الآن هذا العصر.
النقطة الثالثة: خروج الإمام الحسين (عليه السلام) من مكة متوجهاً إلى الكوفة في الثامن من ذي الحجة قبل أن يحج، وكان يمكنه الخروج قبل هذا بعدّة أيام أو بعده بعدّة أيام، لكنه كان يخطط لخروجه في يوم يجتمع فيه الناس، فاختار يوم التروية كي يعلن أمام جمهور الحج نهضته في مقابل يزيد بن معاوية.
ويُعدُّ هذا عملاً إعلاميَّاً وتبليغيَّاً مهماً وكبيراً استخدمه الإمام الحسين (عليه السلام) مستفيداً من الموقع الخاص لبيت الله الحرام، وهو عمل إسلامي مشروع في أصله إذا أردنا الرجوع إلى موضوع إعلان البراءة من المشركين في زمن النبي (صلّى الله عليه وآله) عندما نزلت سورة براءة، وانهت العهود التي دخل فيها الرسول (صلّى الله عليه وآله) مع المشركين ، وقد أرسل النبي (صلّى الله عليه وآله) أبا بكر في البداية لإعلانها، غير أن الوحي نزل عليه واخبره أنَّه لا يبلغ عنك إلا رجل منك، فاستدعى أبا بكر وسلَّم البيان والبرآءة للإمام علي (عليه السلام) فتصدى (عليه السلام) لذلك ( 23).
إذن, فمشروع إعلان الموقف الإسلامي العام في الحج هو بالأصل مشروع آلهي وإسلامي مرتبط بالنبي (صلّى الله عليه وآله)، ولذلك فالإمام الحسين (عليه السلام) استفاد من هذا المنهج الإعلامي في موقفه ضد يزيد.
وهناك جانب آخر ركَّز عليه الإمام الحسين (عليه السلام)- من خلال خروجه في اليوم الثامن من ذي الحجة الحرام - وهو: الحفاظ على حرمة بيت الله الحرام، فإنّ بعض النصوص التأريخية تذكر: انّ الإمام الحسين (عليه السلام) بلغه أن يزيد أرسل له جماعة ليقتلوه في البيت الحرام على أي حال اتفق؛ فقطع حجه الإمام الحسين (عليه السلام)وجعله عمرة مفردة ( 24)، وتحرَّك بالاتجاه المعاكس لحركة الجماهير الغفيرة من الحجاج، ومن الطبيعي أن تسأل تلك الجماهير عن سبب هذا التحرك، فعندها يأتيهم الجواب من الحسين (عليه السلام): بأني لست آمناً في مكة، وأخشى أن ينتهك هذا المكان المقدس باغتيالي فيه، وهذا ما يحرك عواطف الأُمة ويثير مشاعرها لما للحرم المكي والحسين بن علي (عليه السلام) من قدسية في نفوس المسلمين، مع أنهم يرون أن أقدس بقعة هي مكة وحرمها، وأن الحسين (عليه السلام) أفضل إنسان على وجه الأرض في ذلك الوقت، واقرب إنسان إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
وقد يُتساءل فيقال: إنّ من جملة مهام الإمام الحسين (عليه السلام) هو فضح الأُمويين وكشف القناع عن سوء حكمهم واستهتارهم بالدين، فلماذا إذن لم يبق في مكة، فان قتل فيها فستكون فضيحة الأمويين أكبر من أن يقتلوه في مكان آخر؟
ويمكن الجواب عن ذلك: بانّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان يهتم بالجانب الأخلاقي في ثورته، حيث جسده في كل خطوة كان يخطوها، فهو على ما هو عليه من العلم والفضل والقرب من الله ورسوله عندما يقتل في البيت الحرام تنتهك بذلك حرمة البيت وتسق ، ومن ناحية أخرى أراد (عليه السلام) بثورته ايقاط ضمير الأُمة، ومن جهة ثالثة كان خروجه من مكة له آثار كبيرة من الناحية السياسية أيضاً بغضّ النظر عن الناحية الأخلاقية.
فلو افترضنا أنّه (عليه السلام) بقي في مكة وقتل فيها من قبل الأُمويين، فقد يتمكن الأُمويون من التعتيم على هذه الحقيقة بشكل أو بآخر، فينسبون قتله إلى بعض المنافسين السياسيين له ويجعلون الحادثة في طي النسيان ( 26).
ومن هنا نجد أنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) أراد أن يكون قتله بشكل علني، بعد مواجهة وقتال يشترك فيه الناس، لتكون لثورته (عليه السلام) آثار عظيمة على مدى التأريخ والأجيال وهذا ما حصل بالفعل، فبالرغم من أنّه (عليه السلام) استفاد من موقع الحرم الآمن في حركته، لكنه في الوقت نفسه كان يخطط لشهادته أن تكون في مكان آخر حتى يكون لها هذا التأثير العظيم.
وقد تحقق هذا الأثر بعد استشهاده (عليه السلام)، وتحركت الأُمة بسبب تلك الآثار، وبدأت الحركة في العراق واستمرت حتى سقوط الحكم الأُموي; لأنّ الحسين (عليه السلام) استخدم خطاباً سياسياً ناجحاً وقوياً، واستخدم وسائل تمكن من خلالها أن يعمم فكره ونظريته على الأُمة، وهذا كله يصب في هدف معين مقدس، فتمكن (عليه السلام) من إيجاد هذا الأثر الكبير في حركة الأُمة ووجودها.
فلو لم يجمع الحسين (عليه السلام) في حركته الإعلامية بين الهدف والخطاب السياسي والمفردات والوسائل السياسية المناسبة، لكان من الممكن أن لا تكون لشهادته هذه الآثار العظيمة التي نراها الآن في حياتنا، وسوف يراها المسلمون في كل عصورهم وأجيالهم.

التعليق