عاجل:
مقالات 2015-07-16 03:00 666 0

أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ (٢٧)

تخيّل كم جادلهم وحاورهم نبي الله نوح عليه السلام حتى ملّوا منه، فهو لم يكتفِ بأسلوبٍ ولا أسلوبين، ولم يكتفِ بوقتٍ محدّدٍ، وانّما استخدم عدّة أساليب للاقناع بالحوار والجدال فقط لا غير،

السّنةُ الثّانيَةِ

  تخيّل كم جادلهم وحاورهم نبي الله نوح عليه السلام حتى ملّوا منه، فهو لم يكتفِ بأسلوبٍ ولا أسلوبين، ولم يكتفِ بوقتٍ محدّدٍ، وانّما استخدم عدّة أساليب للاقناع بالحوار والجدال فقط لا غير، وفي كلّ الأوقات، وقد حدّثنا القران الكريم عن معاناته بلسانهِ بقوله عزّ مَنْ قائل؛    {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا* فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا* وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا* ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}وهكذا هم كلّ الرّسل والانبياء؛  

 اولاً؛ فصاحبُ الرّسالةِ، أباً كان أَمْ أُمّاً ام معلماً او مصلحاً ام فقيهاً ام خطيباً أم سياسيّاً، لا يملّ من الحوار والجدال ابداً، لاقناع الاخر وتغيير قناعاته او لتعليمهِ وتربيتهِ وتزكيتهِ او لردعهِ وتصحيحِ مسارهِ او للاتفاق معه لتجاوزِ او حلِّ المشاكل.لا ييأس ولا يستسلم بسرعة، ولا يخضع لقول المثبّطين الذين شعارهم دائماً (ميفيد) كلّما سمعوا أحداً يعِضُ او ينصحُ او يجادلُ او يحاور، كما يخبرُنا عنهم القرآن الكريم بقوله {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}الجدالُ، اذن، أقدس الادوات لتبليغ الرسالة. فعندما ترى احدٌ يصرّ على الحوار فتأكد بانّهُ صاحبُ رسالةٍ، اما الذي يستخدم عضلاته فهو ليس بصاحب رسالة ابداً، انه طاغٍ متجبّر ظالم بشكلٍ او بآخر، همّه فرض ما يدور في مخيّلته على الاخرين، مهما كان الثّمن.  

  ولانّ امير المؤمنين عليه السلام كان صاحبَ رسالةٍ، فلذلك ظلّ يوظّف الحوار والجدال حتّى مع أعدى اعدائه، معاوية بن ابي سفيان مثلاً او الخوارج.    كذلك سيّد الشهداء الامام الحسين بن علي عليه السلام، فقد كان صاحبَ رسالةٍ، ولذلك ظلّ يوظّف الحوار والجدال الى آخر لحظةٍ قبل ان يبدأَ القوم القتال صبيحة يوم العاشر من المحرّم عام ٦١ للهجرة، فقد دعا قائد جيش البغي عمر بن سعد ليلة عاشوراء ليلتقيه وجهاً لوجه ليحاورهُ ويجادلهُ بعيداً عن اعين المعسكرَين ليحفظ له هيبته كقائدٍ عسكري يمكن ان تاخذه العزّة بالاثم اذا ما حاوره الامام امام عسكره!.  

  ويخطئ من يظنّ ان الاصرار على الحوار منقصة او علامةُ ضعفٍ ابداً!.    صاحبُ الرّسالة لا ييأس من الحوار فلا يقل (ميفيد) بعد اوّل جولةٍ فاشلةٍ من الحوار، كما يفعلُ البعض، فبمجرّد ان حاورَ الآخر مرّةً او مرّتين فاذا لم يلمس اثراً للحوار تركه قائلاً (ميفيد)! ابداً انّه يظلّ يوظّف الحوار والجدال في كلّ الأوقات فيغيّر الطريقة والاسلوب ويختار أوقاتاً مختلفة للحوار الى ان يلمس تأثيرهُ وأثرهُ.  

  والحوار مع الاخر، أحياناً، لا يكون هو المقصود به وانما غيرُه، فعندما حاور الحسين (ع) ابن سعد كان على يقينٍ بانّه سوف لن يغيّر من قناعاته في تلك السّاعة بعد ان خيّر نَفْسَهُ بين قتل السبط ومُلك الّري فكان ان اختار الاول، ولكنه عليه السلام سجّل كل حوارات عاشوراء للاجيال القادمة، بعد ان ألقى الحجّة على من حضر في كربلاء يوم عاشوراء، فاقتنع بعضهم بكلامه، كالحرّ بن يزيد الرياحي مثلاً، اما الأغلب الاعم فقد ضرب الله تعالى على عقولهم وقلوبهم وأسماعهم، بعد ان مُلئت بطونهم من الحرام، على حدّ وصف الامام عليه السلام.  

 انّ البديل عن ثقافة الحوار هو ثقافة العضلات، ثقافة العنف والعنتريّات والعصبيّات، الاولى تبني مجتمعاً سليماً وقويماً ومنسجماً ومتفهّماً ومتفاهماً على كل المستويات، اما الثانية فلا تُنتج الا الخلافات المستمرة التي تتوالد هندسياً بمرور الزمن.    ولذلك ينبغي ان نبذل كلّ ما في وسعنا ليكون الحوار والجدال ثقافة في المجتمع، يتميّز بها الأبوين في الاسرة والمعلّم والمدرّس في المدرسة، والقائد والزعيم في الحزب والحركة، والمسؤول في الدولة وهكذا، فكلّما كرّسنا ثقافة الحوار والجدال كلّما قلّلنا من استخدام العضلات في علاقات بعضنا مع البعض الاخر.

   ثانياً؛ ان الحوار يحلّ من المشاكل بين الجماعات والافراد ما لم تحلّها الوسائل الاخرى، خاصّة وانّ الكثير من هذه المشاكل سببها جهل الأطراف ببعضها، لاهتمامهم بالنّقل والنّقل المضاد من دون ان يفكّر احدٌ منهم في الجلوس الى الاخر ليسمع منه ويحاوره بدلاً من الاستعانة بطرفٍ ثالثٍ مثلاً.    وعندنا قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} انّما عنى الحوار، فهو مفتاح التّعارف والّذي يُفضي الى التعايش وتالياً الى التعاون والتكامل.    ومن اجل ان يكون الحوار مجزياً وفاعلاً، ينبغي ان نستحضر الأسباب التالية:  

  ١/ ان يكون مبنياً على فكر وثقافة ومنطق حتى لا يكون الحوار من اجل الحوار فذلك هو المِراء بعينه.  

  ٢/ ان لا ندخل حواراً بأحكام مسبقة، او بخلفيّات وقوالب ثابتة وجامدة، فان ذلك يحول دون تغيير القناعات، وعندها سيكون الحوار من نوع حوار الطرشان.  

 ٣/ كما ينبغي ان لا ندخل حواراً الا ونحن مقتنعون به اي مؤمنون بانّه الطريق الاسلم والأفضل لحصد النتائج المرجوّة، اما من يدخل حواراً وقراره افشال نتائجه، مع سبق الاصرار، فسوف لن يُنتج شيئاً ابداً. بمعنى اخر، ينبغي التسلّح بارادة الحوار وليس بمظاهرهِ فقط، عندما يكون الحوار للتسويق الاعلامي مثلاً او لاسقاط واجب او اسكات جهة او خداع اخرى، فالحوار بلا إرادة المتحاورين محكومٌ عليه بالفشل مسبقاً.  

 ٤/ كما انّ لاختيار لغة الحوار الاثر البالغ في تحقيق ثماره، ولذلك قال تعالى {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} وقوله تعالى {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.  

 ٥/ كما ان استحضار مبدأ الاحترام المتبادل واحترام الراي والراي الاخر، في ايّ حوارٍ يساهم في إنجاحه والوصول به الى الثّمار المطلوبة.

   ٦/ كما ينبغي ان يكون الحوار صريحاً وواضحاً وشفافاً بعيداً عن المجاملات التي تقتل جوهره.    لقد شهدنا فشل جلّ الحوارات التي جرت بين الكتل السياسية، وعندما نفتّش عن السّبب نفهم انها المجاملات والمداراة الزائدة عن الحدّ، من جانب، ودوران الأطراف حول حلقات مفرغة يناقشون فيها القضايا التافهة والثانوية بسبب انهم جميعاً يفتقدون الى الشّجاعة التي يحتاجها المتحاورون للولوج في صلب القضايا والمشاكل العالقة، الحقيقيّة والاساسيّة والجوهريّة، ولذلك نسمعهم في كلّ مرّة يتحدّثون عن توصّل اجتماعاتهم لحل ما نسبته (٩٥٪) من المشاكل العالقة ليتبين لنا، فيما بعد، بأنّ كلّ المشاكل الجوهريّة العويصة في الـ (٥٪) المتبقّية! التي لم يجرؤ احدٌ منهم على طرق بابها، وإدراجها في ورقة العمل، حتّى!.

   اي انّهم، وطوال اكثر من عقد من الزمن، يناقشون المظهر من المشكلة دون الجوهر منها، ولذلك تُستنسخ المشاكل وتتكرّر ذاتها بلا نتيجة تُذكر! الى ان تمدّدت الفقاعة لتحتلّ ثُلث العراق!.

 

التعليق