عاجل:
مقالات 2009-12-30 03:00 574 0

45عاماً ...على رحيلِ شاعر المطر ومازالت أوراقه ندية

لا ادعي انني اكتب عن السياب أبدا فانا لستُ سوى عاشق لهذا الحس الإنساني الذي يحاصرُ مشاعري وأحلامي برؤاه وأحلامه

السياب نهرُ تدفق من ارض البصرة باتجاه الوطن

 لا ادعي انني اكتب عن السياب أبدا فانا لستُ سوى عاشق لهذا الحس الإنساني الذي يحاصرُ مشاعري وأحلامي برؤاه وأحلامه ووجعه واغترابهِ الطويل ، ولكنني أثرت ان لاتمر الذكرى دونما استذكار و لو بكلمات بسيطة ، ففي مثل هذا اليوم 24/كانون الأول عام 1964 كان السياب على موعد مع الموت الذي انتظرهُ بفارغ الصبر حينما كان يرقدُ برفض شاعر للفناء في مشفاهُ في الكويت وهو يحلم ببواكيرهِ الاولى وتلك الساعات المليئة بالبهجة والمسرات والألم،رحل من هناك غريباً ليكمل ما ابتدأه من تنبؤات اوحتها شعريته المتفجرة وهو الأتي من جنوب مليئ بكل شيء بوفرة لا تدر ُ على أبناءه سوى المواجع والآلام ، شاعرُ اطل من البصرة بحقول من الدهشة والإمتاع الحزين وأحلام لم تشأ يدُ القدر العابثة ان تحققها ، اطل من جيكور الحرمان وأفاق على هدير مويجات بويب ليحل طلاسم اغتراب شاعر فقد أمه منذ لحظاته الاولى  ومحنة وطن كتب على جبينه الجوع ،يقول في أنشودة المطر :
وكل عام حين يعشب الثرى
نجوع
مامر عام والعراق ليس فيه
جوع.!!!
 في مثل هذا اليوم الشتائي الكئيب رحل السياب عن عمر شعر حافل بالعطاء والإبداع والتجدد ، عمر ملئهُ القدر المشؤوم بتشرد وضياعات،  وحولت لعنة الشعر عمره محطة من عذابات زمن لايعرف معنى الشعر وقلق شاعر مرهف الحس طفولي النزعة والانتماء الى حقول يستشرفها لمستقبل ينبضُ بالحب والجمال ، ان محنة السياب الإنسانية قابلها هو بانتصار شعري جسد من خلاله رحلة الإنسان الباحث عن الحقيقة وقيم الخير المترسخة في لاوعيه ، ان انتماء السياب الى الجديد منحهُ قدرة اكبر في يعبر الى ضفة لم يكن غيره قادراً على خوض مغامرة الاكتشاف والبوح ،ان محاولة قراءة قصائد السياب الكثيرة تجعل القارئ يغرق وسط عوالم يرسمها السياب عبر تكثيف صور مختلفة لكنها تكاد تجتمع في فضاءات الحزن التي تحاول ُ ايجاد معادل موضوعي لما كان يؤرق الشاعر ويقض شريان شعرية فائقة في توصيف لحظات الموت بوصفها عوامل فناء جسدي لكن بعدها الفلسفي والأسطوري يمنح أجواء القصيدة بعداً أخرا في قضية انبعاث جديد، السياب يؤمن بان الانبعاث الحضاري والإنساني يأتي من قدرة الإنسان وحده على إعادة تشكيل عوامل ذلك الانبعاث عبر تعلقه بوعيه في صناعة ذلك الانبعاث والتجدد لهزيمة الفناء بوصفهِ اندثار لقيم الحياة ، ويظل السياب برغم تقادم السنين على رحيله المبكر قضية اكثر من كونه فرد ، قضية امة وشعب يحاول ان يهزم صور الموت والفناء عبر ارتباطه بقيم الحياة الحرة والكريمة وسعيه الدؤوب لصناعة مستقبله عبر هزيمة قوى الظلام التي تمدُ اذرعها الأخطبوطية  لتنزع صور الجمال والرقة والعذوبة عبر نشر صور الدمار والعنف والدم ، ويسرني ان أعيد نشر قصيدة أنشودة المطر بمضامينها الإنسانية الرائعة ولتعلقي الشديد بها ، وأحياءا لذكرى بدر شاكر السياب الذي سيبقى في ضمير الشعر علامة فارقة ووهجاً لن تطفئه الأعوام مهما طالت .
• بلوغرافيا
ولد السياب في البصرة عام 1926 في جنوب العراق في محافظة البصرة في قرية صغيرة تسمى جيكور وقرب نهر اسمه بويب ، ودرس في مدارسها وانتقل في دار المعلمين العالية وتخرج منها عام 1943 وعين مدرساً عرف بمواقفه الوطنية ، شارك في وثبة 1948 الشهيرة ، فصل عدة مرات من وظيفة التدريس وعين في الموانئ العراقية، صدر له عدة دواوين شعرية منها ( إزهار ذابلة،أساطير،أنشودة المطر ،شناشيل ابنة الجلبي ،منزل الأفنان، إقبال ،قيثارة الريح ، أعاصير، البواكير) يعد من رواد الحداثة الشعرية في الوطن العربي ، عانى من الفاقة والحرمان والمرض رحل في مستشفى الكويت في 24/12/ 1964 يوم الخميس ، دفن في البصرة ، له تمثال شاخص في البصرة من عمل الفنان النحات نداء كاظم . 
أنشودة المطر
بدر شاكر السياب
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحر
أو شرفتانِ راحَ ينأى عنهُما القمر
عيناكِ حين تبسمانِ تُورقُ الكروم
وترقصُ الأضواءُ.. كالأقمارِ في نهر
يرجُّهُ المجذافُ وَهْناً ساعةَ السحر...
كأنّما تنبُضُ في غوريهما النجوم

وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيف
كالبحرِ سرَّحَ اليدينِ فوقَهُ المساء
دفءُ الشتاءِ فيه وارتعاشةُ الخريف
والموتُ والميلادُ والظلامُ والضياء
فتستفيقُ ملء روحي، رعشةُ البكاء
ونشوةٌ وحشيةٌ تعانق السماء
كنشوةِ الطفلِ إذا خاف من القمر

كأنَّ أقواسَ السحابِ تشربُ الغيوم..
وقطرةً فقطرةً تذوبُ في المطر...
وكركرَ الأطفالُ في عرائش الكروم
ودغدغت صمتَ العصافيرِ على الشجر
أنشودةُ المطر
مطر
مطر
مطر

تثاءبَ المساءُ والغيومُ ما تزال
تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال:
كأنّ طفلاً باتَ يهذي قبلَ أنْ ينام
بأنّ أمّه - التي أفاقَ منذ عام
فلم يجدْها، ثم حين لجَّ في السؤال
قالوا له: "بعد غدٍ تعود" -
لا بدّ أنْ تعود
وإنْ تهامسَ الرفاقُ أنّها هناك
في جانبِ التلِ تنامُ نومةَ اللحود،
تسفُّ من ترابها وتشربُ المطر
كأنّ صياداً حزيناً يجمعُ الشباك
ويلعنُ المياهَ والقدر
وينثرُ الغناء حيث يأفلُ القمر
مطر، مطر، المطر

أتعلمين أيَّ حزنٍ يبعثُ المطر؟
وكيف تنشجُ المزاريبُ إذا انهمر؟
وكيف يشعرُ الوحيدُ فيه بالضياع؟
بلا انتهاء_ كالدمِ المُراق، كالجياع كالحبّ كالأطفالِ كالموتى –
هو المطر
ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
وعبرَ أمواجِ الخليجِ تمسحُ البروق
سواحلَ العراقِ
بالنجومِ والمحار،
كأنها تهمُّ بالشروق
فيسحبُ الليلُ عليها من دمٍ دثار

أصيحُ بالخيلج: "يا خليج
يا واهبَ اللؤلؤ والمحارِ والردى"
فيرجع الصدى كأنّهُ النشيج:
"يا خليج: يا واهب المحار والردى"

أكادُ أسمعُ العراقَ يذخرُ الرعود
ويخزنُ البروقَ في السهولِ والجبال
حتى إذا ما فضّ عنها ختمَها الرجال
لم تترك الرياحُ من ثمود
في الوادِ من أثر
أكادُ أسمعُ النخيلَ يشربُ المطر
وأسمعُ القرى تئنّ، والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيفِ وبالقلوع
عواصفَ الخليجِ والرعود، منشدين
مطر.. مطر .. مطر
وفي العراقِ جوعٌ
وينثرُ الغلال فيه موسم الحصاد
لتشبعَ الغربانُ والجراد
وتطحن الشوان والحجر
رحىً تدورُ في الحقولِ… حولها بشر
مطر
مطر
مطر
وكم ذرفنا ليلةَ الرحيل من دموع
ثم اعتللنا - خوفَ أن نُلامَ - بالمطر
مطر
مطر
ومنذ أن كنّا صغاراً، كانت السماء
تغيمُ في الشتاء
ويهطلُ المطر
وكلّ عامٍ - حين يعشبُ الثرى- نجوع
ما مرَّ عامٌ والعراقُ ليسَ فيه جوع
مطر
مطر
مطر

في كلّ قطرةٍ من المطر
حمراءُ أو صفراءُ من أجنّة الزهر
وكلّ دمعةٍ من الجياعِ والعراة
وكلّ قطرةٍ تُراقُ من دمِ العبيد
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسمٍ جديد
أو حلمةٌ تورّدتْ على فمِ الوليد
في عالمِ الغدِ الفتيّ واهبِ الحياة
مطر
مطر
مطر
سيعشبُ العراقُ بالمطر

أصيحُ بالخليج: "يا خليج..
يا واهبَ اللؤلؤ والمحار والردى"
فيرجع الصدى كأنه النشيج:
"يا خليج: يا واهب المحار والردى"

وينثرُ الخليجُ من هباته الكثار
على الرمال، رغوةَ الأجاج، والمحار
وما تبقى من عظام بائس غريق
من المهاجرين ظل يشرب الردى
من لجة الخليج والقرار
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق
من زهرة يرُبّها الفرات بالندى

وأسمعُ الصدى
يرنّ في الخليج:
مطر
مطر
مطر

في كل قطرةٍ من المطر
حمراءُ أو صفراءُ من أجنةِ الزهر
وكلّ دمعةٍ من الجياعِ والعراة
وكل قطرةٍ تُراق من دمِ العبيد
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسمٍ جديد
أو حلمةٌ تورّدت على فمِ الوليد
في عالمِ الغدِ الفتي، واهبِ الحياة 

ويهطلُ المطرُ

التعليق

آخر الاخبار